خيمة الألوان .. كيف تعيد فتيات غزة بناء أنفسهن وسط الرماد

mainThumb
خيمة الألوان.. كيف تعيد فتيات غزة بناء أنفسهن وسط الرماد

04-12-2025 12:38 PM

printIcon

أخبار اليوم - في ساحة نزوح مزدحم بدير البلح وسط قطاع غزة، تقف خيمة قماشية رمادية صغيرة لا تتجاوز مساحتها 20 مترًا مربعًا، لكنها تحتضن اليوم أكثر من 60 صوتًا لفتيات تتراوح أعمارهن بين 13 و18 عامًا.

داخلها، تتحول بقايا العلب والأقمشة الممزقة إلى لوحاتٍ وورودٍ ويوميات مكتوبة بألوانٍ باهتة، في مساحة أُطلق عليها اسم "أصوات الغد".

تأتي هذه المبادرة ردًّا على واقعٍ مأساوي يعاني فيه أكثر من 64 ألف طفل قتيل أو مصاب في غزة على مدار عامين من الحرب، وفقًا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، معظمهم بسبب القصف والإصابات المُعطِّلة، ما يجعل التعافي النفسي والجسدي تحديًا هائلًا قد يستغرق سنوات طويلة.

فكرة وُلدت تحت القصف

أسست الخيمة الشابة رهف الشيخ (26 عامًا)، خريجة هندسة الديكور والتصميم، بعد أن وجدتها مهجورة إثر قصف قريب. تقول رهف: "كانت الخيمة مأوى لعائلة، لكن بعد قصفٍ في الجوار تضررت بشدة فنزحت العائلة عنها، فقررت استغلالها رغم الأضرار. ومع الوقت نجحت في إصلاحها وتحويلها إلى مركزٍ صغير للفتيات".

الهدف واضح: توفير مساحة آمنة للفتيات لممارسة الرسم، والكتابة، وصناعة الحِرف اليدوية، وتدوين اليوميات البصرية.

تضيف رهف: "نركز على فن التدوين البصري كوسيلة لتفريغ المشاعر المكبوتة، إلى جانب الرسم والهوايات الأخرى، ونستهدف الفتيات من عمر 13 إلى 18 عامًا لدعمهن نفسيًا وتقوية شخصياتهن".

الفن كعلاج نفسي

تستند الأنشطة إلى دراسات تؤكد فاعلية العلاج بالفن في تقليل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لدى الأطفال في مناطق النزاع، حيث أظهرت مراجعة منهجية لـ13 دراسة أن البرامج الفنية تخفف القلق بنسبة تصل إلى 66%، والعدوان بنسبة 94% لدى الأطفال المتأثرين بالنزاعات، كما في كشمير وأوكرانيا، من خلال تعزيز التعبير غير اللفظي وإعادة بناء الثقة بالنفس.

إلا أن توفير المواد الفنية يشكّل تحديًا يوميًا. تقول رهف: "نواجه صعوبة كبيرة في توفير مستلزمات الرسم والفنون، وإن توفرت تكون بأسعار مرتفعة بسبب الحصار".

وجع شخصي يتحوّل إلى ألوان

جنى كراز (14 عامًا) فقدت شقيقتها الوحيدة خلال الحرب، وتقول: "فقدان أختي كان صدمة كبيرة. وجودي في هذه المساحة الفنية يمنحني أمانًا نفسيًا ويساعدني على التعبير عمّا بداخلي ومواصلة الحياة رغم الألم".

تعكس تجربة جنى واقعًا أوسع، إذ يعاني أكثر من 56 ألف طفل من فقدان أحد الوالدين أو كليهما، وفقًا ليونيسف، الأمر الذي يفاقم الضغط النفسي، خاصة مع ارتفاع حالات سوء التغذية الحاد بنسبة 50% بين أبريل ومايو 2025، وتسجيل 9300 حالة بين الأطفال دون الخامسة في أكتوبر وحده، فضلًا عن خطر يهدد 132 ألف طفل آخرين بالوفاة بحلول صيف 2026 إذا استمر النقص الغذائي.

مرح الشيخ علي (16 عامًا) تقول: "التحقت بالنادي كي نُظهر مواهبنا التي دفنتها الحرب. هنا نُحيي الصفات الجميلة فينا التي طمستها الأحداث. غزة مليئة بالإبداع الذي يستحق الحياة".

وتضيف مسك تمراز، إحدى المشاركات: "أنا ممتنة لـ(أصوات الغد) ولرهف على هذه المبادرة، فقد ساعدتني على تخفيف التوتر وتفريغ الطاقة السلبية، وأكثر ما نفتقده الآن هو الأمان، وهنا نجد جزءًا منه".

من جهتها، توضح مزنة كساب، مسؤولة الأنشطة، قائلة: "نسعى إلى فصل الفتيات نفسيًا عن واقع الحرب، وتوفير مساحة آمنة تمنحهن الراحة، واكتشاف مواهبهن، والتعبير عنها بحرية".

أما وعد بدوان (16 عامًا)، وعضوة مجلس أطفال فلسطين، فتقول: "الصعوبات التي نعيشها دفعتنا للمشاركة من أجل تفريغ الطاقة السلبية والابتعاد عن ضغوط الحياة القاسية".

أرقام موجعة ومستقبل هش

تشير تقارير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى أن جميع أطفال غزة يعانون من صدمة نفسية شديدة، مع ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب إلى مستويات غير مسبوقة، وتسجيل 49 حالة وفاة بين الأطفال بسبب سوء التغذية حتى أغسطس 2025، معظمهم دون الخامسة، إضافة إلى إصابة 15.8% من الأطفال دون سن الخامسة بسوء تغذية حاد، أي أكثر من 54 ألف طفل بحاجة إلى علاج فوري.

وتقيم الفتيات معرضًا فنيًا صغيرًا داخل الخيمة، تعرضن فيه أعمالهن، ويخصص ريعه صدقةً عن روح زميلتين استُشهدتا خلال الحرب: يارا محمد صباح، وسارة أبو حسنين.

وتختم رهف بشغف مؤلم: "أتمنى أن يكبر (أصوات الغد)، وأن يصبح للفتيات مستقبل أفضل، وأن يجدن من يتبناهن ليبدأن مشاريعهن الخاصة. نطمح لإنشاء مساحات فنية أكثر في غزة، فهناك طلبٌ كبير من الفتيات الباحثات عن متنفس يخفف آثار الحرب".

ومع سريان وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر، سعت يونيسف إلى إعادة 650 ألف طفل إلى مقاعد الدراسة، وتمكنت من إعادة 100 ألف خلال فترة قصيرة، غير أن التعافي ما يزال هشًا، في ظل عجز 96% من النساء والأطفال عن تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية، ومعاناة 71.5% من الأسر من انعدام أمن غذائي مزمن حتى قبل الحرب.

في خيمة بالكاد تتسع لأحلام ساكناتها، تثبت فتيات غزة أن الفن ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء. ومن بين الرماد، يقلن للعالم بألوانٍ مكسورة لكن صادقة: نحن هنا… وما زلنا نحلم.

المصدر / فلسطين أون لاين