كيف نبني منظومة تنموية وطنية متكاملة تضع الإنسان في مركز الاقتصاد؟

mainThumb
كيف نبني منظومة تنموية وطنية متكاملة تضع الإنسان في مركز الاقتصاد؟

13-12-2025 03:45 PM

printIcon

 تشهد المؤسسات الوطنية في السنوات الأخيرة حالة من التشتت البرامجي وتكرار المبادرات، بحيث أصبحت الجهود التنموية تتحرك في مسارات متوازية لا تلتقي، وتتداخل في مهام متشابهة دون إطار تنسيقي جامع. هذا التعدد في البرامج لا يعكس بالضرورة قوة في الفعل التنموي، بل يكشف عن فجوة في التنسيق وغياب رؤية موحّدة تحدد الأولويات وتضبط الأدوار وتضمن تراكم الأثر عبر الزمن. فالعديد من المبادرات المتعلقة بالريادة، التمكين، التدريب، الابتكار، والمشاركة المجتمعية تُطلق من جهات مختلفة بصورة متقاربة، بينما تبقى الفجوات الحقيقية في القطاعات الإنتاجية وفي المحافظات خارج نطاق المعالجة الفعلية. ومع غياب منصة وطنية موحدة للبيانات، تتكرر البرامج ذاتها ويظهر التداخل في الفئات المستهدفة والمجالات التدخلية، مما يؤدي إلى هدر الموارد وتراجع القدرة على قياس النتائج أو توجيهها.

هذا التشتت خلق أيضًا حالة غير مقصودة من التنافس بين المؤسسات، حيث تعمل كل جهة على إبراز نجاحاتها المستقلة دون أن تكون جزءًا من سلسلة تنموية متكاملة. ومع غياب الإطار الوطني الرابط، تتجه البرامج إلى التوسع الأفقي في عدد المبادرات، بدل النمو العمودي في مسار تنموي يحوّل المهارات إلى مشاريع، والمشاريع إلى شركات، والشركات إلى فرص اقتصادية حقيقية. كما أدى غياب التكامل الجغرافي إلى تطبيق نماذج حضرية في مناطق ريفية وبدوية ذات طبيعة مختلفة، مما جعل العديد من المبادرات غير ملائمة لاحتياجات المجتمع المحلي ولا تسهم بفعالية في التنمية المناطقية.

ولمعالجة هذا الواقع، يصبح من الضروري إعادة بناء النموذج التنموي الوطني على أسس منسجمة ومتكاملة. وعلى سبيل المثال السريع قد يبدأ هذا النموذج من مؤسسة ولي العهد باعتبارها حجر الأساس في بناء رأس المال البشري وتمكين الشباب بمهارات المستقبل والتقنيات الحديثة، فهي البوابة التي يدخل منها الجيل الجديد إلى الاقتصاد الوطني ويمكن ايضا اعتبار مخرجات التدريب المهني و وما ينتج عن المركز الوطني لتكنولوجيا المستقبل جزءا مهما من المخرجات التي تعتبر مدخلات للمشاريع المتنوعة . ومن هذه المرحلة التأسيسية، ينتقل الشباب إلى برامج صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، الذي يشكل منصة لتحويل المهارات إلى أفكار مبتكرة ومبادرات قابلة للنمو، عبر برامج الاحتضان والدعم الريادي.

بعد ذلك، يلعب دورًا محوريًا المؤسسة الأردنية لتطوير المشاريع الاقتصادية (JEDCO) في الارتقاء بهذه المشاريع من مستوى المبادرة إلى مستوى الشركة الصغيرة والمتوسطة، من خلال التطوير المؤسسي، الدعم الفني، التوسع الإنتاجي، وربط الشركات بالأسواق المحلية والدولية. وعندما تنضج هذه المشاريع وتصبح قابلة للتوسع الجغرافي أو القطاعي، يعود صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية مرة أخرى ولكن هذه المرة بوصفه مستثمرًا وطنيًا ليقود مرحلة الاستثمار في المشاريع ذات الأثر التنموي المباشر التي اجتازت مراحل التطوير، وباتت قادرة على خلق فرص عمل وتقديم قيمة اقتصادية مستدامة في المحافظات والمناطق الأقل حظًا.

وفي البعد المجتمعي، تأتي المؤسسة التعاونية الأردنية كحلقة مكملة لهذا النموذج، إذ تعمل على تشجيع تأسيس التعاونيات الإنتاجية وتمكين المجتمع من المساهمة في الاقتصاد عبر الملكية المشتركة والجهد الجماعي. فالتعاونيات ليست شكلًا تنظيميًا فقط، بل هي أداة اقتصادية قادرة على تحويل الأفراد إلى شركاء فاعلين في التنمية، خصوصًا في قطاعات الزراعة، التصنيع الغذائي، الحرف، والخدمات الاجتماعية. كما تمنح هذه المؤسسة بعدًا اجتماعيًا للنموذج الوطني من خلال دعم مشاريع إنتاجية تمتلك قدرة على تحسين دخل الأسر وتعزيز المشاركة الاقتصادية في الريف والبادية.

يمتد هذا التكامل ليشمل صندوق البادية للتنمية الذي يلعب دورًا جوهريًا في توجيه المشاريع الاقتصادية نحو المناطق الصحراوية والغورية، وخلق فرص إنتاجية قائمة على الموارد المحلية والطبيعة الجغرافية. وبهذا يصبح الصندوق منصة لضمان العدالة المناطقية وتوزيع فرص التنمية بشكل متوازن، رابطًا بين المشاريع المطورة عبر JEDCO، والاستثمارات اللاحقة من صندوق الملك عبدالله الثاني، وبين الإمكانيات الطبيعية الواسعة في البادية والأغوار.

بهذا التسلسل المتكامل، يتشكل مسار وطني ناضج يبدأ بتمكين الإنسان، ثم تحفيز الأفكار، ثم تطوير الشركات، ثم الاستثمار في المشاريع ذات القيمة الفعلية، وصولًا إلى بناء اقتصاد اجتماعي تشاركي عبر التعاونيات. إنه نموذج يحوّل المؤسسات من جزر منفصلة إلى منظومة واحدة تتحرك باتجاه هدف مشترك، ويحول الجهود المتناثرة إلى مشروع تنموي وطني قادر على خلق أثر اقتصادي واجتماعي مستدام يعكس أولويات الدولة ويعزز صمود المجتمعات وقدرتها على الإنتاج والمشاركة .

المهندس معتز غازي العطين