د. أحمد عويدي العبادي (أبو د البشر والطبيب د نمي)
— مؤسس وباني السردية الأردنية، وصاحب مشروعها المعرفي والسيادي.
السردية الأردنية: حين يستعيد التاريخ صوته، وتنهض الهوية من عمق الأرض
ليست السردية الأردنية، في جوهرها، محاولةً لملء فراغٍ تاريخي، لأن الأردن لم يكن يومًا أرضًا بلا تاريخ، ولا مسرحًا خاليًا ينتظر من يمنحه المعنى. إنما المأساة الحقيقية، كما كشفها د. أحمد عويدي العبادي، تكمن في فراغ التدوين لا فراغ الوجود؛ في انقطاع السرد لا انقطاع الحياة. فهذه الأرض، التي شهدت أوائل تشكّلات الإنسان منذ ما يقارب أربعة عشر ألف عام، لم تغب عن التاريخ، بل غُيّبت عنه، وسُحبت من مركزه، ودُفعت قسرًا إلى الهوامش في كتابات الآخرين.
ومن هنا تبدأ السردية الأردنية بوصفها فعل استعادة: استعادة المكان من النصوص المستوردة، واستعادة الإنسان من صور التهميش، واستعادة الزمن من التجزئة. لقد أدرك د. أحمد عويدي العبادي، من خلال خبرةٍ دقيقةٍ متراكمةٍ بالأردن أرضًا وطبيعةً وبنيةً اجتماعيةً وعشائرية، أن التاريخ الأردني لم يُفقد، بل تبعثر؛ وأن مهمة الباحث الحقيقي ليست اختراع سردية، بل جمع الشظايا المتناثرة في صورة واحدة متماسكة.
هكذا أعاد بناء تاريخ الأردن وعشائره بناءً سرديًا متصلًا، لا يبدأ من حدثٍ سياسيٍّ طارئ، ولا ينتهي عند حدود الدولة الحديثة، بل يمتد في خطٍّ حضاريٍّ واحدٍ متصل، من أقدم العصور الحجرية، مرورًا بالحوريين، فالممالك الأردنية الأدومية والمؤابية والعمونية وبيريا وباشان، فالأنباط، ثم العصور الكلاسيكية والإسلامية، وصولًا إلى الحاضر. تاريخٌ لا يعرف القطيعة، لأن الإنسان فيه لم يعرف الرحيل عن أرضه.
الأرض والإنسان والتاريخ: الثالوث الذي لا ينفصم
في صميم هذه السردية، يقوم ثالوثٌ تأسيسيٌّ صارم: الأرض، الإنسان، التاريخ.
الأرض ليست رقعةً صامتة، بل ذاكرة حيّة، تُنبت البشر كما تُنبت الحكايات. والإنسان الأردني ليس عابرًا فوقها، بل ابنها، يحمل تضاريسها في ملامحه، ومساراتها في حركته، ومناخها في سلوكه الاجتماعي. أما التاريخ، فليس سجلًّا منفصلًا عنهما، بل هو حاصل التفاعل المستمر بين الأرض والإنسان عبر الزمن.
ومن هذا الفهم، تنهار كل التصورات التي تعاملت مع الأردن بوصفه فراغًا حضاريًا، أو منطقة عبور بلا ذات. فالأردن، في هذه السردية، هو منتِج للتاريخ لا مستهلك له، وصانع للوقائع لا تابع لها.
الهوية والشرعية والوطنية: المعنى العميق للانتماء
تنتقل السردية الأردنية بعد ذلك إلى مستوى أعمق، هو مستوى المعنى السيادي للانتماء. فالهوية، في نظرية د. أحمد عويدي العبادي، ليست وثيقة، ولا صفة قانونية، ولا شعارًا سياسيًا، بل موروث طبيعي يتراكم عبر الأجيال، وتحمله الأرض، وتؤكده قبور الأجداد، وتحفظه الذاكرة الجمعية. هي هوية متجذّرة، لا تُمنح ولا تُسحب، ولا تتبدل بقرار إداري.
ومن هنا، قد يُحرم الأردني من المواطنة، لكنه لا يُجرَّد من هويته؛ لأنه لم يستمدّها من الدولة، بل من التاريخ. وفي المقابل، قد تُمنح المواطنة لغير الأردني بقرارٍ مكتوب، دون استفتاءٍ عام، ودون امتدادٍ تاريخي، فتظل مواطنته سطحية مكتسبة لا تُدخله في نسيج السردية الأردنية، لأن هذه السردية لا تُبنى على الورق، بل على الجذور.
أما الشرعية، فهي الركيزة الأعمق في هذا البناء. إنها حقٌّ طبيعيٌّ موروث، نابع من الوجود المتصل للأردنيين على أرضهم، لا من نصوص متغيّرة ولا من سلطات طارئة. الشرعية، بهذا المعنى، لا يستطيع أحد سلبها، لأنها سابقة على الدولة، وأعمق من القانون، وأبقى من الأنظمة.
في مقابلها يقف التشريع: فعلٌ إداريٌّ بشري، قابل للتعديل والتبديل والزيادة والنقصان، بل والحرمان. ومن هنا جاء التمييز التأسيسي الذي قدّمه د. العبادي بين الشرعية بوصفها حقًا ثابتًا، والتشريع بوصفه أداةً متغيّرة.
أما الوطنية، فهي النتيجة الطبيعية لهذا كله. ليست خيارًا انتقائيًا، ولا موقفًا ظرفيًا، بل حالة أخلاقية عضوية تنبع من الهوية والشرعية معًا. ومن ثمّ، فإن التخلي عنها لا يُعدّ مجرد اختلاف سياسي، بل عقوقًا؛ عقوقًا للأرض، وللتاريخ، وللآباء الذين صاغوا هذا الوجود بدمهم وعرقهم وصبرهم.
الهوية في مواجهة الجنسية: العمق في مواجهة السطح
تُحسم المسألة في هذه السردية بوضوحٍ لا لبس فيه:
قد يحمل الإنسان أكثر من جنسية، لكنّه لا يحمل إلا هوية واحدة.
الجنسية قرار، أما الهوية قدر.
الجنسية تُكتسب، أما الهوية فتُورث.
والفرق بينهما هو الفرق بين السطح والعمق، بين العابر والمتجذّر.
خاتمة: السردية بوصفها فعل سيادة
بهذا النفس، لا تقدّم السردية الأردنية قراءةً للماضي فحسب، بل تؤسّس لوعي وطنيٍّ سياديٍّ جديد، يعيد تعريف العلاقة بين الأردني وأرضه وتاريخه ودولته. إنها سردية لا تستجدي الاعتراف، ولا تطلب الإذن، لأنها تستند إلى حقيقة بسيطة وعميقة في آن:
أن من يملك الأرض والتاريخ والإنسان، يملك السرد، ومن يملك السرد، يملك الشرعية.
وهكذا، تتحول السردية الأردنية، في فكر د. أحمد عويدي العبادي، من نصٍّ تاريخي، إلى مشروع وطني حضاري مفتوح، يحمي الذاكرة، ويصون الهوية، ويمنح المستقبل جذوره الصلبة.