أرامل الحرب في غزة يقُدن الأسر

mainThumb
أرامل الحرب في غزة يقُدن الأسر

05-05-2025 09:48 AM

printIcon

أخبار اليوم - على طرف خيمتها في حي النصر بمدينة غزة، تجلس أم جهاد (41 عاما) أمام موقد حطب تصنع عليه أرغفة الخبز التي تبيعها لتطعم أبناءها الأربعة. منذ استشهاد زوجها في ديسمبر 2024 بغارة استهدفت حيهم السكني في مدينة غزة، لم تعد تملك خيارا سوى العمل بكل ما تستطيع، كي لا ينام أطفالها جائعين.

تقول أم جهاد وهي تمسح عرقا اختلط برائحة الدخان لـ "فلسطين أون لاين": "لم أكن أتخيل يوما أن أتحول من ربة منزل إلى بائعة خبز في الشارع، لكن الحرب سرقت زوجي وسرقت معي الحياة التي كنت أعرفها".

قبل حرب الإبادة الجماعية، كان زوجها يعمل سائق شاحنة، ويؤمن كل احتياجات المنزل. كانت تعتني بالأطفال، وتزرع بعض النباتات في حديقة بيتهم. لكن كل شيء تبدل فجأة مع دوي الصاروخ الذي دمر المنزل، وأخذ زوجها معه، وتركها وحيدة تواجه الحياة.

تضيف: "ما زلت أرى وجهه في المنام وهو يبتسم لي ويقول اصمدي، فأقوم من نومي لأعجن الطحين وأبدأ يومي وأنا أردد يا رب أعني".

تستفيق أم جهاد مع أذان الفجر، تعجن العجين بماء تحفظه في جالون بلاستيكي، ثم تبدأ بخبزه على صاج حديدي فوق النار. وتقول إنها تخبز يوميا ما يكفي لعشرين زبونا من الجيران والنازحين القريبين، وتحصل في نهاية اليوم على ما يقارب 25 شيكل تنفقها على الطعام، وحليب طفلها الرضيع، وبعض الأدوية لأمها المريضة.

وتقول: "أخشى المرض أكثر من أي شيء، لأن لا مال لدينا للعلاج، ولا مستشفى قريب يستقبلنا، وكل ما أملكه هو هذا الخبز الذي يجلب لنا لقمة العيش".

رغم أنها لا تزال في الثلاثينات من عمرها، إلا أن ملامحها بدت أكبر من سنها، ويديها امتلأتا بالتشققات من كثرة العمل. تقول إنها رفضت عروض البعض بأن يتكفلوا بإعالة أطفالها بشرط أن تتخلى عنهم أو تسلمهم لأقاربهم.

"أنا أمهم، ولا أحد غيري يستطيع أن يمنحهم الحب والأمان، حتى ولو عشنا في خيمة بلا كهرباء ولا ماء".

عندما تسألها عن أحلامها، تصمت قليلا وتنظر إلى السماء ثم تقول: "أحلم فقط أن أربي أولادي بكرامة، وأن أظل قادرة على الوقوف على قدمي، لأنني إن سقطت، ستسقط الخيمة".

بائعة ثياب على رصيف النزوح

في أحد شوارع مدينة دير البلح، تجلس هالة خلف وراء قطعة قماش مفروشة على الأرض، وقد رتبت فوقها ملابس أطفال مستعملة. تنادي على المارة بصوت خافت: "القطعة بثلاثة شواكل.. تعالوا شوفوا ملابس نظيفة ورخيصة".

هالة، وهي أم لخمسة أطفال، فقدت زوجها سامي في نهاية مارس الماضي بعد أن استهدفت طائرة حربية بدون طيار مجموعة من الرجال في حي الشجاعية، كان زوجها بينهم. منذ ذلك اليوم، لم تعد الحياة كما كانت.

"كان زوجي يعمل موظفا حكوميا، كنا نعيش حياة بسيطة لكنها مستقرة، لكن بعد استشهاده انقلب كل شيء، حتى الهواء تغير"- تضيف هالة لـ "فلسطين أون لاين"

بعد القصف، نزحت هالة مع أطفالها إلى دير البلح، ولم تجد مأوى إلا داخل قاعة تابعة لمدرسة مدمرة جزئيا. تنام العائلة على الأرض، وتغطيهم بطانية ممزقة حصلت عليها من إحدى الجمعيات.

تروي هالة كيف بدأت فكرة البيع قائلة: "بقيت شهرا أنتظر أي مساعدة، لكن لا أحد طرق بابي. ذات صباح، قررت أن أبيع بعض ملابس أطفالي التي لم يعودوا يستخدمونها، فجلست على الرصيف، وبدأت أنادي الناس. وهكذا بدأت رحلتي الجديدة مع الشارع".

ما تبيعه اليوم تحصل عليه من تبرعات الجيران أو من أكياس المساعدات التي توزعها بعض المنظمات. تختار الملابس الجيدة، تغسلها، وتعرضها للبيع.

"كل يوم أحمل البضاعة على ظهري، وأمشي بها من المدرسة إلى الرصيف، وأجلس خمس أو ست ساعات، أبيع قطعة أو اثنتين، وأعود ومعي ما يعادل 20 أو 30 شيكل، بالكاد تكفي لشراء أرز أو خبز".

هالة لم تتعود على العمل، وكانت تعتمد كليا على دخل زوجها، لكنها الآن مضطرة إلى لعب دور الأب والأم معا. تقول بابتسامة حزينة: "لم أعد أبكي كما في الأيام الأولى، الدموع لم تعد تجلب الخبز، والشارع لا يرحم الضعفاء".

أكبر أبنائها، مهند، عمره 12 عاما، اعتاد على حمل البضاعة أو في البحث عن أكياس المساعدات. تحاول هالة إقناعه بالعودة إلى الدراسة لكن دون جدوى.

تقول: "يقول لي يا أمي لا أستطيع أن أراك تتعبين وحدك.. قلبي يتمزق وأنا أراه يحمل أثقل من عمره، لكن لا مفر".

في ختام حديثها، تمسك بقطعة ملابس صغيرة وتحملق بها طويلا، ثم تقول: "أمنيتي الوحيدة أن لا يضطر ابني إلى الجلوس على هذا الرصيف مثلي حين يكبر. أريده أن يكون شيئا مختلفا عن هذه الحياة التي جرّتني إليها الحرب".

وسط هذا الواقع المظلم، تكشف الأرقام عن حجم المأساة التي تعيشها النساء في قطاع غزة. فوفق تقديرات صادرة عن مؤسسات حقوقية محلية، فقد خلفت الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، أكثر من 12 ألف أرملة تحولن قسرا إلى معيلات لأسرهن في ظل انعدام الحماية الاجتماعية وانهيار المنظومة الاقتصادية.

ورغم فداحة الأعداد، تغيب أي رعاية حقيقية لهؤلاء النسوة. فلا توجد جهة معنية تتولى تنظيم أو متابعة احتياجات الأرامل، بينما تقتصر المساعدات على جهود فردية أو مبادرات من جمعيات محلية هي الأخرى من نقص التمويل. ويبرز في هذا السياق غياب تام لأي تدخل فعّال من قبل السلطة في الضفة الغربية، التي لم تُبدِ حتى اللحظة أي تحرك جاد لتقديم برامج دعم نفسي أو اقتصادي للنساء المتضررات من الحرب في غزة.

حماية قانونية خاصة

ويؤكد الخبير الحقوقي صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، أن الأرامل في زمن الحرب يتمتعن بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لكن ما يجري في غزة هو انتهاك صارخ لكل هذه النصوص.

يقول عبد العاطي لـ "فلسطين أون لاين": "النساء الأرامل، وهنّ في وضع هش أصلا، يُفترض أن يحصلن على حماية مزدوجة بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة، التي تنص على وجوب توفير الرعاية الخاصة للنساء المتضررات من النزاعات المسلحة، وخاصة اللواتي فقدن المعيل الأساسي لأسرهن".

ويضيف: "الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، يؤكدان على حق المرأة في الكرامة والعمل والرعاية الاجتماعية، ويفرضان على الدول توفير برامج دعم للنساء الأرامل، تشمل الإيواء والمساعدات النقدية والخدمات الصحية والنفسية".

لكن عبد العاطي يشير إلى أن ما يحدث في الواقع بعيد تماما عن هذه الالتزامات، موضحا "لا توجد سياسات عامة من قبل الجهات الرسمية لمعالجة أوضاع الأرامل، ولا خطط استراتيجية لدمجهن في الحياة الاقتصادية أو تقديم تعويضات لهن، وهذا يمثل انتهاكا لالتزامات السلطة الفلسطينية أمام المجتمع الدولي".

ويختم قائلا: "ترك الأرامل في مواجهة الفقر والعوز من دون دعم حكومي أو حماية قانونية، هو وصمة... والسكوت عن ذلك جريمة أخلاقية وسياسية".

المصدر / فلسطين أون لاين