حسين محيسن .. "بطل الإسعاف" عاد شهيدًا

mainThumb
حسين محيسن.. "بطل الإسعاف" عاد شهيدًا

16-06-2025 12:06 PM

printIcon

أخبار اليوم - في زاوية مقبرة صغيرة، بعيادة شهداء الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، جلس الطفل محمد محيسن، ذو الاثني عشر ربيعًا، يحتضن الجاكيت الأخضر الذي اعتاد أن يراه على جسد والده، مدير الإسعاف والطوارئ بمحافظة غزة، حسين محيسن.

كان الجاكيت يحمل رائحة والده، وكان "محمد" بين الحين والآخر يغمض عينيه ليشتمّه، وكأنّه يتوسل للزمن أن يُعيد أباه من الموت، فقط للحظة واحدة.

وأعلنت مديرية الخدمات الطبية، في التاسع من الشهر الجاري، استشهاد المسعفين "محيسن"، ووائل العطار، وبراء عفانة، لدى محاولتهم انتشال عدد من المصابين من منزل تعرض للاستهداف من قبل الاحتلال في حي التفاح شمال شرق مدينة غزة، حيث أصابتهم قذيفة دبابة بشكل مباشر ما أدى لاستشهادهم على الفور.

وذكرت مديرة الخدمات الطبية في بيان لها، تعرض طاقم إسعافي آخر حاول الوصول إليهم وانتشال جثامينهم، لإطلاق النار من قبل آليات الاحتلال وطائراته المسيرة.

نداء استغاثة

بنبرة حزينة، قال "محمد" وهو ينظر نحو قبر والده: كان أبي لا ينام، حتى ليلة استشهاده، لم يكمل طعام العشاء، وما إن تلقى اتصالاً عن قصف في حي التفاح حتى نهض مسرعًا، وخرج دون أن ينظر خلفه.

في تلك الليلة، كانت سماء غزة تمطر نارًا، وكانت نداءات الاستغاثة لا تتوقف، ورغم الخطر، صعد محيسن، مع زميليه العطار، وعفانة، المتطوع الشاب، إلى سيارة الإسعاف، ليواصلوا مهمتهم التي لطالما التزموا بها منذ بدء الاحتلال حرب الإبادة، وهي إنقاذ الأرواح.

ساعات قليلة مرت، امتلأت خلالها سيارة الإسعاف بالمصابين، وامتلأت ذاكرة محيسن، بصور الأطفال والنساء تحت الركام، لكن نداءً جديدًا جاء، حول استهداف جديد في حي التفاح، وهناك جرحى وشهداء بحاجة للنجدة.

قاد محيسن، سيارته مع زميليه إلى هناك، لكنّ يد الغدر الإسرائيلية كانت أسرع، وبمجرد وصولهم، استهدفتهم قذيفة دبابة بشكل مباشر، فاستشهد الثلاثة على الفور.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم استهداف الطاقم الإسعافي الآخر الذي حاول انتشال جثامينهم، بطلقات نارية من آليات الاحتلال وطائراته المسيرة، بحسب ما قاله أحد ضباط الإسعاف لصحيفة "فلسطين".

وقال المسعف أحمد عبيد، ساعات مرّت قبل أن يتمكن المسعفون من الوصول إلى الجثث، كانت الصور التي التُقطت لهم مؤلمة، وقد ارتدوا ملابس الإسعاف بوضوح، لكن الاحتلال لا يفرق بين مقاتل ومسعف، بين إنسان وركام.

وأعلنت مديرية الخدمات الطبية في غزة، استشهاد محيسن ورفيقيه، وسط مشاعر حزن غامرة من زملائهم وأهالي المدينة الذين شيّعوهم بالدموع، فهؤلاء ليسوا ضحايا عاديين، بل أبطال سقطوا وهم يحملون رسالتهم الإنسانية.

رجل المهمات

ويقول زميله المسعف عبيد: "كان محيسن، رجل المهمات الصعبة، لم يرفض يومًا مهمة، ولم يتأخر عن نداء، طوال الحرب، كان أول من يصل وآخر من يغادر".

ويضيف عبيد لـ "فلسطين أون لاين": "رغم القصف، كان يقود السيارة بنفسه، يداوي الجرحى، يحمل الأطفال من تحت الركام، ويعود كل ليلة منهكًا، ثم يخرج مجددًا.

لم يكن محيسن، مجرد مدير إسعاف، كان صديق الجميع، وأبًا للمتطوعين الجدد، رفض مغادرة غزة رغم توسلات عائلته، قائلًا: في حديث سابق لـ "فلسطين أون لاين": إذا أنا غادرت، من يبقى لينقذ الناس؟.

وبدموع احتضن مؤيد نجل الشهيد محيسن، جثمان والده قبل أن يدفنه في مركز شهداء الشيخ رضوان الصحي، حيث عمل الوالد طوال الحرب، بداخله.

وتحدث "مؤيد" عن آخر مكالماته مع والده قائلاً: "كان يحدثنا كل يوم، يطمئن علينا، يبتسم قليلاً، ثم يعتذر سريعًا ليغادر لمهمة جديدة".

وبعد رحلة نزوح قسري دامت أكثر من 15 شهراً، عادت العائلة لتجد أن لحظات اللقاء لا تدوم، فكل زيارة من الأب للبيت كانت قصيرة، ينهيها صوت هاتف أو صفارة إنذار.

لم يكن محيسن، وحده في الميدان، بل كان أحد جنود العمل الإنساني الذين أصروا على البقاء في قلب الخطر، وبينما تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها الشامل على غزة، أصبح هؤلاء المسعفون رموزًا للصمود الإنساني.

في آخر الإحصاءات، استشهد أكثر من 1580 من الكوادر الطبية منذ بدء الاحتلال الحرب في 7 أكتوبر 2023، ولا تزال قوافل المسعفين تخرج رغم الخطر، تداوي الجراح وتنتشل الأمل من بين الركام.

وتداول النشطاء صورًا ومقاطع فيديو للشهيد محيسن، وهو يحمل طفلاً مصابًا، ويُخرج امرأة من تحت الأنقاض، ويركض بيده حقيبة الإسعاف وعيونه تسبق الخطر، كانت مهمته أكبر من مهنة، كانت رسالة آمن بها حتى اللحظة الأخيرة.

وفي وداع الشهيد المسعف محيسن، لم تُرفع الأعلام الفلسطينية، بل رفعت الجاكيتات الخضراء التي يرتديها المسعفون، كرمز للشجاعة والوفاء.

وأمام قبره، جلس ابنه "محمد" يتمسّك بذكريات أبيه، وينظر إلى سيارة الإسعاف المتوقفة بصمت، كأنها بانتظار نداء جديد.. نداء لن يُجاب هذه المرة.

 فلسطين أون لاين