أخبار اليوم - خرج عشرات الآلاف يحملون أملاً هشا في الحصول على كيس طحين يسد رمق جوع عائلاتهم وأطفالهم الجوعى، تحمل أجسادهم المنهكة أحلاما بما يبقيهم على قيد الحياة، كانت عيونهم تترقب الشاحنات التي قيل لهم إنهم ستمر شمال قطاع غزة، لينقلب المشهد إلى كابوس من نار ودم، وصلت إليهم الرصاصات قبل أن تلامس أيديهم أكياس الطحين، فكانت مقصلة جماعية جهزها الاحتلال لهم، وأبشع مجزرة مساعدات يرتكبها الاحتلال خلال الحرب.
عاش حسام أحمد (17 سنة) لحظات عصيبة عندما خرج من منزله باكرًا، صباح الأحد مع والده، تقدم مع عشرات الآلاف من الأهالي من كافة الأعمار من نساء وأطفال وكبار سن، الجميع استبشر خيرا بقدوم شاحنات مساعدات، ظنا منهم أن المساء سيكون هادئا كالصباح، غير مدركين أن الاحتلال يحضر مجزرة كبيرة لهم.
وفي أقسى المجازر خلال حرب الإبادة الجماعية، قتل جيش 88 مجوعا وبلغت حالات الإصابة نحو 500 إصابة، في حصيلة كبيرة، تعاملت معها المستشفيات رغم حالة الإنهاك التي تعيشها نتيجة تجويع الطواقم الطبية، ونقص العلاج والمستلزمات الطبية، مما أدى لحالة ضغط هائلة على المستشفيات خاصة مستشفى الشفاء، وهو المشفى المركزي الوحيد الذي يحمل هم الكارثة وحده شمال غزة بعد تدمير معظم المستشفيات فيها.
فخ كبير
يسترجع الأهوال التي عاشها وكان يحاول التقاط أنفاسه اللاهثة ومسح وجهه المغبر من جراء الركض والاحتماء خلف البيوت المهدمة من الرصاص الإسرائيلي، ويحكي لـ "فلسطين أون لاين": "بالبداية كلنا فرحنا بدخول سيارة العمال، ودخول عشرات الشاحنات الفارغة من غزة لحاجز زيكيم لتحميل الطحين، لكن عند الساعة التاسعة صباحا، بدأ إطلاق النار كزخات، المطر. كنت أتواجد في الخطوط الأولى، لأن الاحتلال استدرج الجميع للتقدم وكانت الدبابة تثير غبارًا لإيهام الشباب بدخول الشاحنات، وعندما ينطلق الشباب من الأماكن التي احتموا بداخلها يتم إطلاق زخات رصاص عليهم مما أدى لاستشهاد وإصابة العشرات على الفور".
كان ما سبق جزءً بسيطا، مما عاشه من أهوال، أضاف بنبرة مليئة بالخوف والرعب الذي عاشه في تلك اللحظات: "عندما خرجت الدبابة كان فخا كبيرا، أصيب عشرة أشخاص برؤوسهم قربي، رأيتهم أمامي، فعدت للاحتماء مع مجموعة شبان خلف أحد البيوت، فجاءت مسيّرة "كواد كابتر" وألقت قنبلة قربنا ونجونا، وفي منطقة قريبة قصفت المدفعية مجموعة شباب، شعرت بخطورة شديدة. أسلحة فتاكة تستهدف شبانا عزل".
عايش أحمد لحظة إصابة مسن خرج لجلب كيس طحين لأطفاله، يروي: "كان الحاج قريبا من الدبابة، ناديت عليه بالانتباه والعودة فقال لي: "بدي أجيب طحين لأولادي" فقنصته الدبابة، وبدأت بإطلاق زخات رصاص نحونا، فاحتميت مرة أخرى خلف أحد البيوت، وبدأ هو بالزحف مصابا لأكثر من نصف ساعة لكنه استشهد من شدة النزيف. وبقينا محاصرين تحت إطلاق النار لأكثر من ساعة ونصف، لا تستطيع رفع رأسك من شدة إطلاق الرصاص، وعندما دخلت الشاحنات بالدفعة الثالثة، إذ وزع الاحتلال دخول الشاحنات على أربع دفعات يفصل بين دفعة وأخرى نحو ساعتين، وكانت كل دفعة تضم ثمانية شاحنات حتى يتدافع الناس عليها ويستطيع ارتكاب مجزرة بشعة".
تأخر أحمد من العودة لمنزله لأكثر من ساعتين نتيجة محاصرته في الخطوط المتقدمة الأولى لطالبي المساعدات، بينما عاش والداه لحظات عصيبة في انتظاره، يعلق وهو يحمد الله أنه عاد حيًا ويعزم على عدم العودة مرة أخرى لتلك المناطق: "أخبرتني أمي أنها ظلت تبكي طيلة الساعتين، وتتصل بالأقارب، وتسأل عني، وفي آخر الدقائق كانوا يوشكون على التوجه لمستشفى الشفاء للبحث عني بين المصابين أو الشهداء، قبل أن أتصل بهم من هاتف عمتي، في لحظات عادت إليهم الحياة عندما سمعوا صوتي. فأنا ابنهم البكر، وعاهدتهم بعدم الذهاب مرة أخرى لجلب الطحين علما أنها هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى زيكيم، فوضعنا المعيشي جيد جيد، لكن الظروف الصعبة التي يعيشها كل أبناء القطاع دفعتنا جميعا للتوجه إلى هناك ولم ندرك أن الكارثة بهذه الخطورة".
لحظات عصيبة
"ما تاخدوه مني" كان هذا صوت أب يضم طفله بين ذراعيه، ويطالب أقاربه بعدم اخذه منه لتكفينه، في لحظات وداع مؤلمة على أحد جدران قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، ذهب طفله لجلب كيس طحين فعاد في كفنٍ وفاجعة كبيرة يحملها قلب الأب المكلوم على رحيل طفله، كانت عيناه تغرقان في وجعٍ وبكاءٍ على فقد فلذة كبده، وهو يحاول تقريب طفله إلى صدره.
لم يكن المشهد السابق سوى واحد من مئات المشاهد المؤلمة داخل مجمع الشفاء الطبي، لآباء وأمهاتٍ هرعوا نحو المشفى للبحث عن أبنائهم المصابين و الشهداء والمفقودين، ففي ساحة دخول سيارات الإسعاف كان الأهالي يندفعون مع كل سيارة إسعاف، ينظرون لملامح المصاب والشهيد الذي يحمله الإسعاف، كل واحد يبحث عن ملامح أبنائه بين الوجوه المضرجة بالدماء.
وفي داخل قسم الطوارئ كان المصابون يفترشون الممرات والأرض نتيجة امتلاء الأسرّة، على أحدها كان المصاب محمد عفانة يتنفس من خلال أسطوانة تنفس اصطناعي، وتمتد الوصلات الطبية لداخل صدره، يقاوم المصاب ألم الإصابة كما كان يقاوم قبل ساعات ألم الجوع.
ورغم وقوف عفانة في منطقة بعيدة كليا عن منطقة توزيع المساعدات، إذ اختار منطقة شارع "المخابرات" لانتظار القادمين من منطقة المساعدات في محاولة لشراء كيس طحين من أحدهم، إلا أن ذلك لم يمنع الاحتلال من إرسال مسيّرة (كواد كابتر) للمنطقة التي كان يتواجد فيها وقامت بإطلاق النار على تجمع للمواطنين، استقرت إحدى الرصاصات في رقبته جعلته يرقد بأوضاع صحية صعبة.
يقول خاله لـ "فلسطين أون لاين": "خرج محمد لشراء كيس طحين قرب منطقة المخابرات، لم يرد التقدم للأمام خوفا من حدوث شيء، إلا أن المسيرة أطلقت الرصاص عليه وأصابته رصاصة برقبته وخرجت من الفقرة الثالثة بعموده الفقري، وها هو يتمدد على السرير الطبي بانتظار الأطباء لمتابعة حالته"، مناشدا، الأمة العربية والإسلامية بالوقوف مع أهل غزة.
وأضاف وهو يجول بنظره لقسم الطوارئ الذي يعج بالمصابين: "كله إصابات بعدد أكياس الطحين التي أدخلوها، تساوت مع عدد الإصابات والشهداء".
على الأرض بالقرب من سرير المصاب عفانة، كانت الجروح تملأ وجه المصاب أحمد أبو عيادة، الذي جاء مبكرًا منذ ساعات الصباح لقسم الطوارئ، قام الأطباء بلف مكان الإصابة بالرأس، إلا أن الزيف ظل مستمرًا، فكانت بقع الدماء أسفل رأسه تتسع، وهو ممدد على الأرض، تملأ آثار الجروح والشظايا وجهه وكأنها أخفت معالمه، وحتى ساعات المساء لم تأتِ عائلته للمشفى.
على أحد أعمدة القسم، وبالقرب من المصابين السابقين، لف الأطباء مكان إصابة الشاب محمود السوسي بالرأس، وتعرض لكسور بالقدم بعد أن دهسته الشاحنة اثناء سقوطه من فوقها لحظة الإصابة، لكن الأطباء لم يستطيعوا إيقاف الألم الذي كان يشتد عليه.
اتصل الشاب بأحد أصدقائه وأبلغه بإخبار أهله بما جرى معه، ويروي لـ "فلسطين أون لاين" وهو يحاول استجماع قواه المنهكة بسبب ألم الجوع والإصابة: "ذهبت للحصول على طحين والعودة بشيء نأكله. صعدت الشاحنة لكن تعرضت للإصابة بالرأس، فسقطت على الأرض ومشت الشاحنة على قدمي. يجب إيقاف الحرب والمجاعة من فترة لم نأكل الخبز. نريد أن نعيش حياة كريمة بعيدا عن هذا الذل والموت".
في ساحة المشفى الخارجية، ومع حلول الليل لم يتوقف قدوم الشهداء، ولم تخلوا الساحة من آباء وأمهات لم يجدوا أبناءهم بين الشهداء والمصابين، وفقدت آثارهم منذ توجهه لشمال غزة في محاولة لجلب لقمة العيش، في الساحة ذاتها، كان أحد الآباء يعانق كفن طفله، في لحظة بكاء صامت، ظل الأب لعدة دقائق على هذا الحال، لا يصدق أنه يعيش آخر لحظات الوداع لطفله الذي خرج من بيته جائعا ولم يعد.
إعدام ممنهج
على بعد أمتار من بيته في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، كان عبد إدريس، ثلاثيني، مستلقياً على فرشة مهترئة أمام منزله، ودماء تسيل من ساقه المصابة.
يروي لـ "فلسطين أون لاين" ما حدث في مجزرة الطحين، قائلًا: "غادرت منزلي حوالي الساعة الثامنة صباحًا، متوجهًا إلى منطقة زكيم بانتظار دخول المساعدات، كنا نبتعد عشرات الأمتار عن مواقع تمركز جيش الاحتلال الإسرائيلي حين باغتنا بإطلاق النار مباشرة دون سابق إنذار".
ويقول إدريس: إن الفوضى عمت المكان، الناس يصرخون، الجثث تسقط واحدة تلو الأخرى، بينما يواصل القناصة استهداف رؤوس وأجساد المدنيين، "كنت أحاول إنقاذ من سقطوا، خلعت قميصي لأضغط على جرح أحد الأطفال المصابين في رأسه، لكن الإصابة كانت قاتلة، كان واضحاً أن الهدف لم يكن تفريق الحشود، بل إعدامهم".
وبين الكثبان الرملية، حاول إدريس: سحب بعض المصابين بعيدًا عن مرمى النيران، لكن رصاصة استقرت في ساق رجله اليمنى: "سقطت أرضًا، وكنت أرى الرصاصات تمر بالقرب من رأسي، نجوت بأعجوبة"، يضيف وهو يضغط على جرحه.
أما شريف الهليس، وهو من سكان حي النصر، فقد أصيب بطلق ناري اخترق فروة رأسه وسقط على الأرض وسط تدافع الناس، وقع عليه عدد من الفارين الذين استشهد بعضهم فوق جسده، ما أدى إلى إصابته بكسور في الصدر.
ويروي الهليس لـ "فلسطين أون لاين": "كنت أظن أنني استشهدت، غبت عن الوعي وسط الدماء، ثم أفقت على صوت أحدهم يصرخ، مصاب، مصاب، حين فتحت عيني".
ويشير إلى أن الشبان الذين نقلوه لم يتوقفوا رغم استمرار إطلاق النار، حملوه على عربة "تكتك" متجهة إلى مكان بعيد، هو وعدد من الشهداء والمصابين حيث توقفت قرب سيارة إسعاف كانت ممنوعة من الاقتراب بسبب استهداف الطواقم الطبية.
في المكان ذاته، كان رشاد بركات، جالسًا بجوار إدريس، يقول: إن قوات الاحتلال كانت تتعمد استهداف رؤوس المدنيين وكأنهم في ميدان تدريب.
ويضيف لـ "فلسطين أون لاين": "بقينا محاصرين ثلاث ساعات كاملة، كل محاولة للزحف أو الابتعاد كانت تقابل بوابل من الرصاص، زحفنا على بطوننا وسط الرمال والركام، فهذا كان خيارنا الوحيد للنجاة".
ويتابع رشاد: "الطائرات المسيرة كانت تسقط علينا القنابل، وكأنهم يريدون إبادة كل من تواجد في تلك المنطقة، كنا نريد فقط رغيف خبز نطعم به أبناءنا، لكن الاحتلال حولنا لأهداف حية، يقتلنا بالجوع أولاً ثم بالرصاص".
وكانت وزارة الصحة في غزة، أكدت في بيان صدر يوم الأحد، أن جيش الاحتلال يواصل استخدام سياسة "التجويع كسلاح حرب".
ومنذ 2 مارس 2025، تواصل سلطات الاحتلال إغلاق المعابر كافة أمام المساعدات الغذائية والطبية، مما تسبب في تفاقم المجاعة وارتفاع عدد الوفيات في مختلف مناطق القطاع.
وتواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي حربها الضروس على قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، مرتكبة آلاف المجازر بحق المدنيين والأبرياء العزل وتدمير القطاع، ومواصلة سياسة التجويع والتهجير القسري، رغم الإدانات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية، لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية، بل تزداد شراسة، وسط دعم أمريكي مستمر.
وقد خلفت هذه الحرب أكثر من 200 ألف شهيد وجريح، بينهم نسبة كبيرة من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 9 آلاف مفقود، وأعداد مهولة من النازحين، في وقت تفتك المجاعة بمن تبقى من الأحياء.
فلسطين أون لاين