أخبار اليوم - كان خالد النجار، ابن الثلاثين عامًا من حيّ الصبرة وسط مدينة غزة، يعرف جيدًا قيمة قدميه، لم تكن مجرّد طرفين يحملانه، بل كانت وسيلته للحياة، وأداته للنجاة، وسرّ مهنته التي أتقنها منذ سنوات كمُدهّن للحوائط والأثاث، يتسلّق بها السلالم، يقف عليها لساعات، يطارد رزقه بين الأحياء والبيوت.
لكنه اليوم، وبعد ضربة جوية إسرائيلية في يوم 22 يناير 2024 استهدفت المخيم الذي يتواجد فيه في مدينة خانيونس بعد أن أجبر على النزوح إليها من مدينة غزة بفعل حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن.
خالد لم يعد يملك سوى قدم واحدة، وذكريات دامية عن الطرف الآخر الذي فقده تحت الركام، وعن حياة سُرقت منه فجأة، وتركت مكانها خواءً وعجزًا دائمًا.
يقول النجار في حديث لـ "فلسطين أون لاين" "قدمي كانت كل شيء، مصدر رزقي وكرامتي واستقلالي، عندما بُترت، لم أفقد فقط ساقًا، بل ضاع معه كل شيء كنت أتمسّك به".
قبل الحرب، لم يكن خالد يملك ثروة، لكنه كان يملك كرامة العامل، الذي يعتمد على نفسه ويقف بثقة على قدميه، لم يكن له نصيب في الزواج، لكنه كان يعيل نفسه ويدعم أسرته، واليوم، بعد البتر، بات سجين كرسي بلا عجلات مناسبة، عاجزًا عن التحرك في خيام الإيواء، يطلب المساعدة لقضاء حاجته، وللوصول إلى دورة مياه غير مهيأة، في أرضية رملية لا ترحم.
الألم الذي لا يُرى
ورغم الألم الجسدي المستمر، فإن ما يؤلم خالد أكثر هو الواقع القاسي بفعل استهداف المنظومة الطبية، فهو لم يتلق مساعدة صحية مناسبة تمنع بتر قدمه، كما أنه لم يتلقَّ طرفًا صناعيًا، ولا علاجًا طبيعيًا، ولا حتى مسكنًا كافيًا، ينام على فراش إسفنجي مهترئ، ويقضي نهاره جالسًا، ينظر في الفراغ، يستعيد مشاهد البتر والقصف والدماء، ويسأل نفسه: "لماذا؟"
يعيش خالد اليوم داخل خيمة مع عائلته، لكنه يشعر بوحدة قاتلة، يقول شقيقه محمد: "نحن حوله، لكن لا أحد يمكنه أن يشعر بمرارة ما في داخله. لكل منا همه، أما هو فيحمل وجعًا لا يوصف، عجزه اليومي، عدم قدرته على الفرار وقت القصف، حاجته للآخرين في كل شيء هذا ما يقتله ببطء".
في ظل حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ أكتوبر 2023، لم يجد خالد من يخفف عنه، لا مؤسسة تأهيلية، ولا عيادة ميدانية، ولا طرفًا صناعيًا يبدد جزءًا من ألمه، المراكز مدمرة، الدعم الإنساني متوقف، والمستلزمات الطبية نادرة.
وحتى الطعام والشراب، بات الوصول إليهما تحديًا آخر، فخالد لا يستطيع الوقوف في الطوابير الطويلة للحصول على وجبة ساخنة أو لتر ماء، بل ينتظر من يساعده… إن وُجد.
"الكرامة"، الكلمة التي كانت تملأ حياة خالد، باتت اليوم تجرح قلبه، " فخالد لا يبكي من الألم، بل من الحرج… من كونه أصبح عبئًا على من كان يعيلهم".
هذه ليست مجرد قصة عن بتر ساق، بل عن اغتيال روح، عن إنسان حوّل الاحتلال الإسرائيلي جسده إلى عاهة، وسرق منه استقلاله، وتركه في خيمة بلا دواء، ولا رعاية، ولا أمل.
خالد اليوم ليس فقط بحاجة إلى طرف صناعي، بل إلى إعادة ترميم إنسانيته. يحتاج إلى من يسمعه، من يحترم ألمه، من يساعده على الوقوف – ولو مجازيًا – من جديد، لكن في ظل الحصار والقصف والانهيار الكامل للبنية الإنسانية، لا يزال خالد وأمثاله ينتظرون… في صمت، وتحت الرماد.
فلسطين أون لاين