سوسن عكيلة .. أم أنهكتها الحرب ببترٍ وفقدٍ ونزوحٍ لا ينتهي

mainThumb
سوسن عكيلة... أم أنهكتها الحرب ببترٍ وفقدٍ ونزوحٍ لا ينتهي

27-07-2025 02:31 PM

printIcon

أخبار اليوم - بين جدران نزوحٍ متكرّر، لا تحمل سوسن عكيلة (50 عامًا) سوى ذكرياتٍ ثقيلة، وندوبٍ في الجسد والقلب لا تندمل. هي أمٌ قاست الحرب بأشكالها كافة؛ هجّرتها من بيتها، وبترت أصابع يدها، وخطفت منها من كانوا سندها في الحياة: نورهان وفهمي.

قبل الحرب، كانت سوسن تعيش حياة بسيطة وهادئة وسط أسرتها في منطقة جحر الديك، أمًّا لسبعة أبناء، كرّست حياتها لعائلتها، تقضي يومها بين الطهي والغسيل والدعاء بأن يكبر أبناؤها بأمان.

لكن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة قلب حياتها رأسًا على عقب. فمنذ الساعات الأولى، تحوّلت الأحياء السكنية إلى أهداف نارية، واضطرت سوسن وعائلتها إلى النزوح. تقول لصحيفة "فلسطين" بأسى: "طلعنا من بيتنا نركض، ما معنا غير هوياتنا وكم قطعة ملابس.. ما كنا نعرف وين نروح".

وجدت العائلة مأوى مؤقتًا في منزل أحد الأقارب وسط مدينة غزة، لكن الأمان لم يدم طويلًا. "القصف ما بيفرّق بين بيت وبيت، بين مدني ومقاتل.. كلنا أهداف"، تقول سوسن وهي تسترجع أصعب لحظات حياتها.

في يوم 15 ديسمبر 2024، كانت سوسن تجلس مع نورهان، ابنة زوجها، في باحة المنزل، حيث لجأت العائلة بعد نزوحهم. كانتا تغسلان الملابس يدويًا، بلا كهرباء أو مياه دافئة، في واقعٍ لا يشبه شيئًا من الحياة الآمنة. وفجأة دوّى انفجار، باغتتهما قذيفة دبابة إسرائيلية.

تقول سوسن لصحيفة "فلسطين": "ما حسّيت إلا وأنا مرمية، الدم بكل مكان، ونورهان ما كانت تتحرك… حسّيت إن قلبي انكسر، مش بس أصابعي اللي راحت. نورهان كانت بنتي، كانت كل شي إلي".

نُقلت إلى المستشفى، وهناك أُعلنت استشهاد نورهان على الفور. أما سوسن، فقد بُتر إصبعان من يدها اليمنى. وتتابع: "كنت حاسة إني فقدت إيدين، مش إصبعين. لأن نورهان كانت إيدي التانية، إذا طلعت مشوار لحالي أحس إني مشلولة… بس ربنا اختارها".

ولم تكد تلملم جراحها، حتى اضطرّت إلى النزوح من جديد، وهذه المرة إلى جامعة الأزهر، بحثًا عن ملاذ يقي أبناءها موتًا يتربّص بهم في كل زاوية.

لكن الحزن لم يتركها، إذ جاءها بعد أيام خبر استشهاد فهمي، ابن زوجها. تقول: "ما صدقت... كان أحنّ علي من أولادي، دايمًا يسأل عني، وما يخليني أحتاج شي".

وبصوت متهدّج، تضيف: "أنا ما بخاف من الحرب، بخاف من اللي بتأخده الحرب.. من الناس الطيبين اللي راحوا، من وجع ما بنام منه، من الفراغ اللي مالي قلبي وبيتي".

ورغم الجراح التي لا تُرى، تحاول سوسن الوقوف من جديد، لأجل من تبقى من أبنائها، ولأجل نفسها التي لم تُهزم رغم كل ما خسرته. تقول: "بحاول أعيش، أكون قوية… بس وجعي ما بنشاف، هو جواتي، كل يوم بيزيد".

بعد الإصابة، باتت تعيش واقعًا قاسيًا ينهك ما تبقّى من جسدها وروحها. لم تكن خسارتها لأصابع يدها مجرد بتر، بل سلبًا لوظيفتها كأم وربة منزل اعتادت أن تخدم أبناءها في كل تفاصيل حياتهم.

"صرت أعتمد على غيري بكل شي.. ما بقدر أغسل، ولا أعجن، ولا حتى أمسك السكينة أقطّع خضار، ولا أمشط شعري لحالي. كل حركة بتوجعني وبتذكرني بأيادي كانت تساعدني وراحوا"، تقول سوسن بصوت تخنقه الحسرة.

ومع انعدام الكهرباء، وغياب التجهيزات الأساسية، أصبحت المهام اليومية عبئًا مضاعفًا، تقول: "كنت دايمًا أحب أطبخ لأولادي بإيدي.. اليوم بوقف قدّام الطنجرة، بعيط، لأن حتى فتحة الغطا صعبة عليّ، وكل شي صار يعتمد على المساعدة".

وتتابع: "حتى لما أقعد أطبخ على النار، بحسها نار الله الموقدة، مش نار الطبخ.. الحرارة تلسع مكان البتر، والوجع بيضاعف، بحس النار مش بس تحت الطنجرة، كأنها جوّه إيدي".

رغم بساطة الفعل، فإن الوقوف لإعداد الطعام بات مهمة شاقة، كل حركة تُعيد لها إحساس الفقد والخسارة. "الطبخ كان مهرب من التعب، كان متعتي.. اليوم صار عذابي".

قبل الحرب، كانت سوسن تعمل في حضانة أطفال، تملأ يومها بحبهم، توزّع ضحكتها وحنانها على الصغار. تقول إن أصواتهم كانت تعيد إليها شبابها، لكن الحرب غيّرت كل شيء. خطفت منها روحها قبل أن تخطف نورهان وفهمي، وأخذت منها يدها التي كانت بها تطبطب وتطعم. واليوم، تعيش بين ندوب الجسد ونزيف الروح.

 فلسطين أون لاين