أخبار اليوم - في خيمة صغيرة أقامتها عائلتها على أطراف منطقة المواصي غرب خانيونس، لا شيء يوحي بالحياة سوى يدٍ ناحلة تُمسك فحمة سوداء، وتحركها بثبات فوق سطح معدني محترق. من بين الركام والغياب، تولد اللوحات من رماد الطناجر، ويولد الفن من قلب الحرب، على يد الشابة النازحة رغدة بلال شيخ العيد (23 عامًا)، التي هجّرتها الغارات الإسرائيلية من مدينتها رفح منذ أكثر من عام.
لم تجد رغدة ورقًا ولا أقلام رصاص، ولا حتى فرشاة أو ألوان منذ بداية العدوان، لكنها لم تتخلَّ عن شغفها بالرسم. بحثت في البيئة المدمَّرة من حولها عن أي أثر يساعدها على خلق صورة تحاكي وجعها ووجع من حولها.
تقول لصحيفة "فلسطين": "فكرة الرسم بشحبار الطناجر بدأت أول مرة خلال نزوحنا إلى المواصي قبل سنة ونصف. لم أكن أملك أي أدوات للرسم، وكان لا بد من إيجاد بديل. تذكرت أن الفحم قد يُعطي نتيجة قريبة من الرصاص، فبدأت أستخدم آثار احتراق أواني الطهي، وحوّلتها إلى لوحات تنبض بالألم."
اليوم، لا تزال رغدة ترسم بالشحبار ذاته، ليس فقط لأن أدوات الرسم مفقودة، بل لأن هذا الفحم الأسود أصبح جزءًا من هويتها الفنية، ولغةً بصرية تعبّر بها عن كل ما لا يُقال.
"الأكل نفسه لم يعد متوفرًا، فكيف ستكون هناك أدوات للرسم؟"، تتساءل بأسى.
لوحاتها ليست تقليدية، بل هي شهادة حية على مآسي قطاع غزة. في إحداها، وجوه أطفال ينتظرون رغيفًا عند أبواب تكيات الإغاثة، وفي أخرى مشهد من مجزرة دوّار الكويتي، وفي ثالثة، الطفل الذي استشهد جوعًا شمال القطاع، وكأنها توثّق بالفحم ما عجزت الكاميرا عن التقاطه.
تقول: "أغلب أعمالي تتحدث عن وجع الأمهات، وعيون الأطفال، وركام البيوت، وأجساد الجرحى. أحاول من خلال لوحة واحدة إيصال كل ذلك، بصمتٍ يختصر الكلام."
بدأت رغدة الرسم منذ طفولتها دون معلم أو تدريب أكاديمي. كان حلمها الالتحاق بمعهد فنون، لكنها تقول إن الحصار والحروب المتكررة قطعت الطريق أمام ذلك.
"كنت أدرس أنظمة معلومات حاسوبية، لكن في سنتي الأخيرة تعطل اللابتوب الخاص بي بسبب النزوح المتكرر، فاضطررت لتغيير التخصص، واليوم أبدأ من جديد بدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها."
ترى رغدة أن الفن وسيلة مقاومة، وسلاح ناعم لإيصال صوت المحاصرين. تقول: "نرسم من الرماد، لأن هذا ما تبقى لنا. نرسم لأننا لا نملك إلا هذا الشكل من الحياة."
ورغم أن الحياة باتت معلّقة بين الخيمة والنجاة، بين الخبز المفقود والقصف المتواصل، تحتفظ رغدة بحلم بسيط: "أحلم بإقامة معرض فني خاص، تُعرض فيه لوحاتي التي رسمتها بشحبار الطناجر، لتكون شاهدًا على زمن عشنا فيه بلا أدوات، لكننا لم نتوقف عن الحلم."
فلسطين أون لاين