أخبار اليوم - داخل خيمتها في مخيم إيواء "الصامدين" غرب مدينة غزة، تجلس سناء حلاوة (32 عامًا)، واضعة يدها على بطنها المنتفخ، وقد بلغت شهرها الثامن من الحمل، تتأمل مصير جنينها الذي تحلم أن يولد حيًّا، لكنها تخشى أن يولد تحت القصف، أو ألّا يولد أبدًا.
"كل يوم أستيقظ وأقول لنفسي: هل سأبقى على قيد الحياة حتى ألد؟ وهل سيُكتب لهذا الطفل أن يصرخ صرخته الأولى، أم سيختنق في بطني قبل أن يرى النور؟" تقول حلاوة لـ "فلسطين أون لاين"، محاولة تبديد مخاوفها.
نزوح وصدمة
نزحت حلاوة قبل ثلاثة أشهر من منزلها في حي الشجاعية شرق غزة، بعدما دمرت طائرات الاحتلال بيتهم بالكامل. كانت حينها في شهرها الخامس من الحمل، واضطرت للهرب مشيًا على الأقدام مع زوجها وأطفالها الثلاثة تحت القصف. على الطريق، سقطت قذيفة قربهم أطاحتها أرضًا بعنف.
"صرخت وسقطت أرضًا، لم أستطع الحركة. كل ما فكرت فيه في تلك اللحظة أنني سأموت مع طفلي في بطني، وأن دفني سيكون جماعيًّا بلا وداع."
تقول حلاوة إنها كانت تعاني من سكري الحمل، وكان من المفترض أن تتابع حالتها في مستشفى الشفاء، لكنها لم تستطع الوصول إليه بسبب صعوبة المواصلات، خاصة بالنسبة إلى الحوامل.
وتضيف: "ذهبت مرة إلى مستشفى ميداني، ورجوت الطبيب أن يفحصني. قال لي: لا يوجد جهاز سونار، ولا أدوية للسكري، عودي إلى خيمتك وانتظري الولادة. أي ولادة؟ على أي أرض؟ وتحت أي سماء؟"، تقول سناء بحرقة.
وتتابع: "أنا أموت ببطء. أشعر بتقلصات، أحيانًا أرى دمًا، لا أستطيع النوم من الألم والخوف. لا حليب، لا طعام، لا دواء. فقط صمت... وقنابل".
وكلما اقترب موعد الولادة، يزداد رعبها. تقول: "سمعت عن نساء ولدن في الخيام ومات أطفالهن لأن لا أحد أسعفهم. طفلي، إذا خرج إلى الحياة، هل سيجد حاضنة؟ أم سيختنق ويموت أمام عيني؟".
تحلم حلاوة أن تلد في مستشفى، أن تشتري ملابس جديدة لطفلها، أن تختار له اسمًا بهدوء وسعادة. لكن الآن، لا تملك شيئًا. "كنت سأطلق عليه اسم آدم. الآن لا أعرف إن كنت سأحمله بين ذراعي، أم سأحمله في كفن صغير."
وتضيف: "كل ما أريده هو أن يولد طفلي حيًّا، وأن أسمع صوته يصرخ.. لا صوت القنابل. أريد أن أعيش. هل هذا كثير؟"
"نزفتُ على الطريق دون رعاية"
في غرفة صغيرة مهدّمة جزئيًا غرب حي الرمال بمدينة غزة، تجلس إيمان سليم (27 عامًا)، ترتدي ثوبًا أسود فضفاضًا، وتضع على رأسها غطاء أبيض متسخًا بغبار القصف. تحضن بين يديها صورة لجنين لم يولد.
كانت إيمان في شهرها السادس من الحمل حين اضطرت للنزوح قسرًا مع زوجها وطفلتها الصغيرة من حي الزيتون، تاركة خلفها البيت والذكريات وأحلام الأمومة التي تحطمت على طريق الموت.
"لم أكن أريد سوى أن ألد بسلام.. أن أسمع نبض طفلي لا دوي القنابل، أن أختار له ملابس، لا أن أبحث عن كفن صغير"، تقول لـ"فلسطين".
يسكن زوجها حي الزيتون، أحد أكثر المناطق التي تعرضت لقصف عنيف منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023. في صباح يوم النزوح، سقطت قذيفة على بُعد أمتار من منزلهم، حطّمت النوافذ وتسببت بانهيار جزئي للسقف.
"شعرت بقلبي ينفجر. أمسكت بطني وصرخت. لم أفكر إلا بجنيني.. هل تأذى؟ هل نجا؟"، تروي لحظة الرعب التي غيّرت مصيرها.
حمل زوجها حقيبة صغيرة، وخرجا مع مئات العائلات سيرًا على الأقدام نحو حي الرمال. الطريق كان مليئًا بالركام والدخان والجثث. وبينما كانت تمشي، بدأت تشعر بألم حاد أسفل بطنها، ثم نزيف مفاجئ.
"لم يكن هناك طبيب، لا إسعاف، لا ماء. نزفتُ على الطريق ولم يسألني أحد."
وتتابع: "أجهضت طفلي وأنا نائمة على الأرض، بلا دواء، بلا طبيب، بلا رحمة. شعرت أن روحي خرجت معه"، تقول وهي تشير إلى بقعة ما على الأرض، حيث فقدت جنينها.
لم تُسجل حالتها في أي مستشفى، ولم تحصل على علاج. بعد أيام، بدأ جسدها ينهار تدريجيًا من الألم والتهابات لم تُعالج.
كانت تحلم أن تسمي طفلها "أحمد" على اسم والدها المتوفى. بدأت تخيط له ملابس بيديها. "أحمد... لم يأتِ. لم أحتضنه، لم أقبّله. الحروب لا تترك لنا أبناء، فقط تمنحنا القبور"، تقول وهي تقبض على قطعة قماش كانت قد خاطتها لطفلها المنتظر.
"55 ألف امرأة حامل في غزة"
من جهته، حذر د. صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، من كارثة صحية وإنسانية غير مسبوقة تهدد حياة 55 ألف امرأة حامل في قطاع غزة، في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر والحصار المشدد الذي أدى إلى انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية.
وقال عبد العاطي لـ"فلسطين أون لاين" إن ما يقارب ثلث النساء الحوامل في غزة يعانين من حالات حمل عالية الخطورة، ويواجهن خطر الولادة دون أي رعاية طبية أو وجود مستشفيات مجهزة، مما يعرّض حياتهن وحياة مواليدهن لخطر الموت الفوري.
وأكد أن "غالبية الولادات اليوم تتم في خيام أو منازل مدمرة أو في الشوارع، وسط انعدام المستلزمات الطبية، وشح الوقود، وغياب الطواقم الصحية".
وأوضح أن ورقة حقائق أصدرتها الهيئة كشفت عن 130 ولادة يوميًا في غزة، أكثر من ربعها عبر عمليات قيصرية تُجرى غالبًا في ظروف غير آمنة بسبب نقص الكوادر والمعدات.
وخلال النصف الأول من عام 2025، تم تسجيل 17,000 حالة ولادة، بينها 2,600 حالة إجهاض ووفاة 220 جنينًا قبل الولادة، إلى جانب وفاة 21 مولودًا خلال الساعات الأولى من حياتهم.
وأشار إلى تسجيل 67 حالة تشوه خلقي، أبرزها حالة الطفلة "ملك القانوع" التي وُلدت بلا دماغ نتيجة تعرض والدتها للإشعاعات الناتجة عن القصف. كما دخل أكثر من 2,500 طفل حديث الولادة إلى الحضانة، وولد 1,600 طفل بوزن أقل من الطبيعي، مع تسجيل 1,460 حالة ولادة مبكرة.
وأضاف عبد العاطي أن "النساء الحوامل يعشن في ظروف نفسية مأساوية، مع غياب تام للخدمات النفسية والاجتماعية بعد تدمير المراكز المختصة ونزوح الكوادر الطبية".
ولفت إلى أن ما بين 10% إلى 20% من النساء الحوامل والمرضعات يعانين من سوء تغذية حاد، وسط إغلاق 21 مركزًا لعلاج سوء التغذية لدى الأطفال.
وطالب عبد العاطي المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة بالتحرك الفوري لوقف العدوان ورفع الحصار، وفتح ممرات إنسانية آمنة للنساء الحوامل والأطفال، وتوفير الوقود والمستلزمات الطبية للمستشفيات، ومحاسبة دولة الاحتلال على استخدام الغذاء والدواء كسلاح حرب.
فلسطين أون لاين