البطوش تكتب: خدمة العلم… حين تصنع التربية جنديًا للحياة

mainThumb
البطوش تكتب: خدمة العلم… حين تصنع التربية جنديًا للحياة.

19-08-2025 02:09 PM

printIcon

حنين البطوش
استشارية نفسية أسرية وتربوية

إعادة خدمة العلم في الأردن ليست عودة إلى الماضي، بل عبورٌ نحو مستقبلٍ أكثر وعيًا وانضباطًا، فهي ليست مجرد خطوة تنظيمية أو عسكرية، بل مشروع وطني متكامل يحمل أبعادًا نفسية، أسرية، تربوية، واقتصادية، فخدمة العلم مدرسة للحياة، تُعيد للشباب بوصلتهم الداخلية، وتمنح الأسرة يقينًا بأن أبناءها في طريق النضج والمسؤولية، فيما تعيد للمجتمع ثقته بجيلٍ قادر على حمل المسؤولية وصون الانتماء.

خدمة العلم لا تصنع جنديًا فقط، بل إنسانًا متوازنًا قادرًا على خدمة نفسه وأسرته ووطنه، فعلى المستوى النفسي، تعمل خدمة العلم على تهذيب طاقات الشباب الجامحة وتوجيهها نحو مسارات إيجابية، فتعلّمهم فن الصبر وضبط الانفعالات في مواجهة الضغوط اليومية والتحديات الحياتية، إنها تجربة تحوّل شخصياتهم من دائرة الفوضى والتشتت إلى فضاء من التوازن النفسي والقدرة على التحكم بالذات، مما يعزز وعيهم الذاتي، ويقوي قدرتهم على اتخاذ القرارات الحكيمة، وبناء علاقات أسرية واجتماعية أكثر انسجامًا واستقرارًا.

خدمة العلم ليست مجرد التزام وطني، بل سياج واقٍ في زمن التيه، حيث ينجرف الشباب بين إدمان الشاشات، فراغٍ قاتل، واندفاع نحو سلوكيات متهورة، وصولًا إلى تأثير رفقة السوء، فهي تعيد تشكيل بوصلة الجيل، إذ تُحوّل أوقات التشتت والضياع إلى طاقة فاعلة ومنتجة، وتغرس فيهم جذور الانتماء والهوية، حتى لا يذوبوا في ثقافات دخيلة ولا يعلقوا في عزلة رقمية خانقة، وهنا تتجلى قيمة خدمة العلم كدرع حصين، يفتح أمامهم مسارات جديدة لتصريف طاقتهم بشكل إيجابي، ويحدّ من احتمالات الانحراف أو الانجرار وراء أنماط سلوك سلبية قد تهدد مستقبلهم.

لا تقف خدمة العلم عند حدود الانضباط العسكري، بل تمتد لتكون مشروعًا متكاملًا يُعيد تشكيل شخصية الشاب من الداخل والخارج، فهي تفتح أمامه أبواب سوق العمل عبر تدريبه على مهارات حياتية وتنظيمية تعزز إنتاجيته وتمنحه استقلالية اقتصادية تدريجية تقلل من اعتماده على أسرته، وفي الوقت ذاته يشكل البرنامج درعًا واقيًا من الانحرافات السلوكية والجنسية، إذ يوجّه طاقة الشباب نحو مسارات منظمة وهادفة، فيحصّنهم من الانجرار خلف نزوات عابرة أو سلوكيات متهورة, بهذا تلتقي القوة الاقتصادية مع الوقاية السلوكية، لتصنع شبابًا أكثر وعيًا ومسؤولية، قادرين على خدمة أنفسهم ومجتمعهم.

خدمة العلم تجربة شاملة تصقل العقل والنفس قبل الجسد، حيث تعزز الذكاء العاطفي والانضباط النفسي لدى الشباب، فتعلّمهم التحكم بمشاعرهم ومواجهة الضغوط اليومية بحكمة وهدوء، وتنمّي مهارات التعاطف، الصبر، وحل المشكلات، وهي أدوات أساسية لبناء علاقات أسرية واجتماعية متينة. كما تُربي الشباب على المسؤولية المجتمعية، فتزرع فيهم الولاء الوطني وروح العطاء، وتمكنهم من الإسهام الفعّال في المبادرات التطوعية وخدمة المجتمع، وتُنمّي الخدمة مهارات التواصل والقيادة من خلال العمل الجماعي واتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية تدريجيًا، مما يؤهلهم لتولي أدوار قيادية مستقبلية داخل الأسرة والمجتمع، كما تعزز الاستقلالية واتخاذ القرار، إذ تمنح تجربة الابتعاد المؤقت عن البيت فرصة الاعتماد على الذات وإدارة الوقت والموارد، فتزداد ثقة الشاب بنفسه ويقل الاعتماد الكلي على الأسرة، بينما تنخفض الصدامات وتصبح لغة الحوار أكثر فاعلية وسلاسة.


فضلاً عن ذلك، تهيئ خدمة العلم الشباب للحياة الجامعية والمهنية عبر ترسيخ الانضباط واحترام الوقت وإدارة المسؤوليات، وتمنحهم تعليمًا بالخبرة، حيث يطبقون قيم التعاون والالتزام والمسؤولية على أرض الواقع، ما يجعل التعلم أكثر ثباتًا وفاعلية مقارنة بالنظريات وحدها.

على صعيد الأسرة، تمنح خدمة العلم شعورًا عميقًا بالطمأنينة والفخر، فهي تطمئن الأهل إلى اكتساب أبنائهم مهارات حياتية وسلوكية قيّمة، وتعزز شعورهم بالأمان تجاه مستقبلهم، كما تقوي الروابط الأسرية، إذ يعود الابن من هذه التجربة بشخصية ناضجة أكثر، تحمل المسؤولية وتفهم قيم التعاون والانضباط داخل البيت.

خدمة العلم ليست فقط تدريبًا وانضباطًا، بل جسر يردم الفجوة بين الأجيال؛ إذ يجد الشاب نفسه يخوض تجربة شبيهة لتلك التي عاشها والده أو جده، فتتقارب الرؤى وتلين الصدامات داخل الأسرة، إنها فرصة لإحياء لغة التفاهم بين الآباء والأبناء، حيث تتحول التجربة المشتركة إلى مساحة حوارٍ وتواصلٍ أعمق.

خدمة العلم ليست غيابًا عن الأسرة، بل هي عودة إليها بشكل أقوى, فهي تبني شبابًا أكثر التزامًا ومسؤولية، وأبناءً أكثر نضجًا ووعيًا، ومواطنين أكثر انتماءً، إنها تجربة شاملة تجمع بين التربية، والانتماء، والانضباط، لتجعل المجتمع أكثر تماسكًا وقدرة على مواجهة تحديات الحاضر وصناعة مستقبل أفضل.

إن استدعاء الإناث إلى خدمة العلم لا يُعد خطوة شكلية أو ثانوية، بل هو استثمار استراتيجي في نصف المجتمع الذي ظلّ عبر التاريخ شريكاً أساسياً في البناء والتغيير، فمشاركة المرأة في برامج وطنية منظمة، تُعزز من دورها القيادي والمهني، وتُصقل مهاراتها الحياتية، وتفتح أمامها آفاقاً أوسع للمشاركة الفاعلة في التنمية، إنها رسالة واضحة بأن الوطن لا يكتمل إلا بجناحيه؛ الرجل والمرأة، وأن بناء المستقبل يتطلب تمكين الشباب جميعاً، دون استثناء، من حمل مسؤولية الوطن بوعي، كفاءة، وانتماء.