أخبار اليوم - على سرير أبيض في قسم العناية المركزة بمستشفى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي للأطفال، ترقد لارا البطران ذات الثمانية أعوام، تحيط بها أجهزة التنفس الصناعي التي بالكاد تُبقيها على قيد الحياة.
عينان غائرتان تبحثان عن الأمل وسط أنين المرض، وهمساتها الخافتة بالكاد تُسمع وهي تقول: "بدي أرجع أشوف إخوتي.. بدي أروح".
ليست "لارا" مجرد طفلة مريضة، بل واحدة من عشرات الأطفال المصابين بـ"الشلل الرخو الحاد"، وهو شكل نادر من الشلل المفاجئ يصيب الجهاز العصبي ويؤدي إلى فقدان الحركة وحتى التنفس دون تدخل طبي عاجل. هذا المرض الخطير اجتاح قطاع غزة المحاصر، مستغلًا هشاشة النظام الصحي المنهار بفعل الحرب الإسرائيلية والحصار الممتد منذ سنوات، وتدمير المنظومة الصحية بالكامل.
أوضاع مأساوية
تقول منار البطران، والدة لارا، وهي تمسح دموعها: "قبل شهرين استيقظت لارا من النوم، حاولت أن تمشي لكنها سقطت فجأة وبدأت تتقيأ. نقلناها للمستشفى، ومنذ ذلك الحين لم تغادر سرير العناية المركزة".
وتزيد مأساة العائلة بفقدان والد لارا العام الماضي إثر سقوط صندوق مساعدات أُلقي من طائرات عربية على الحي. تضيف الأم لـ فلسطين أون لاين: "أرعى خمسة أطفال وحدي ولا أملك شيئًا سوى الأمل"، مشيرةً إلى أن ابنتها فقدت أكثر من نصف وزنها، إذ هبط من 25 كيلوغرامًا إلى 13 فقط، وتعاني اليوم من شلل كلي وسوء تغذية حاد.
أما شقيقتها الصغرى "عيدة" (عامان ونصف)، فتعاني من ضمور في المخ وتدهور متسارع بسبب نقص الغذاء والعلاج. تقول الأم بحرقة: "لم يعد عندي ما أقدمه لهما، لا حليب، لا حفاضات، ولا طعام. أريد فقط أن تمشيا من جديد، أن تلعبا، أن تريا الشمس مثل باقي الأطفال".
وتناشد الأم العالم العربي والإسلامي والمؤسسات المعنية بالطفولة للوقوف إلى جانب أطفال غزة وسكانها، مطالبة بوقف الحرب وفتح المعابر أمام المرضى لتلقي العلاج المناسب، في ظل تدمير الاحتلال المنظومة الصحية بالكامل.
العدو الصامت
يوضح الدكتور محمد حجو، رئيس قسم العناية المركزة في مستشفى الرنتيسي، خطورة المرض المعروف طبيًا باسم "متلازمة غيلان باريه"، مشيرًا إلى أنه "حالة نادرة يهاجم فيها الجهاز المناعي الأعصاب الطرفية، غالبًا بعد عدوى فيروسية أو بكتيرية".
يبدأ المرض بضعف في الساقين، ثم ينتقل سريعًا إلى الجهاز التنفسي، مما يجعل الأجهزة الطبية ضرورية لبقاء المريض على قيد الحياة. ويضيف: "نسبة الإصابة عالميًا لا تتجاوز 1-2 حالة لكل 100 ألف شخص، وهي نادرة جدًا بين الأطفال، لكن في غزة رصدنا خلال الشهرين الماضيين أكثر من 100 إصابة، بينها 40 إصابة بين الأطفال".
الأخطر – كما يوضح حجو – أن البيئة في غزة تفتقر إلى التشخيص والعلاج: "مختبراتنا مدمرة، لا نملك أدوات تشخيص متقدمة، ونعتمد فقط على التاريخ المرضي والفحص السريري، ما يجعل التشخيص متأخرًا ومعقدًا".
العلاج يتطلب أدوية نوعية مثل المستخدمة في غسيل البلازما، لكنها غير متوفرة، ما يجبر الأطباء على استخدام وسائل بدائية تزيد من احتمال المضاعفات والوفيات. وتفاقم الأزمة الغذائية الوضع أكثر، فكيف لطفل يعاني من الشلل أن يتعافى دون طعام؟
ويحذر الدكتور حجو: "إذا استمرت الحرب واستمر الحصار، سنشهد موجة جديدة من الإصابات، فقد سجلنا الشهر الماضي ثلاث حالات في يوم واحد".
ورغم أن نسبة الوفيات عالميًا من المرض تتراوح بين 6 و8%، فإن الوضع في غزة ينذر بأسوأ من ذلك مع غياب الرعاية المناسبة، حيث يُترك كثير من الناجين بإعاقات دائمة يصعب علاجها لاحقًا.
أصوات تُنادي
تطالب الطواقم الطبية والعائلات بضرورة إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية العاجلة، وفتح المعابر أمام المرضى، إلى جانب توفير الحاجات الأساسية من حليب، مياه نظيفة، حفاضات وغذاء.
في نهاية الزيارة، وبين صفير الأجهزة، تهمس لارا من سريرها: "بدي أروح".
ربما لا تعي معنى الحرب ولا تدرك تفاصيل السياسة، لكنها ببساطة تريد أن تعود إلى بيتها، أن ترى إخوتها، أن تركض وتلعب وتعيش.
في غزة، لم يعد "الشلل الرخو الحاد" مجرد حالة طبية، بل صار رمزًا لوضع صحي وإنساني مأساوي ينهش الأطفال في صمت، بينما يواصل العالم صمته.
فلسطين أون لاين