أخبار اليوم - في إحدى زوايا مدينة غزة المحاصرة، حيث يمر الموت كل لحظة، اتخذ طالب الشوا (57 عامًا) قراره غير القابل للمساومة: "لن أخرج من بيتي، حتى لو كانت النهاية بين جدرانه".
يسكن الشوا قرب مستشفى الشفاء، أحد أخطر مناطق القصف خلال الحرب الإسرائيلية على القطاع، لكنه تمسّك بالبقاء، رغم كل التحذيرات والمآسي.
تقول زوجته لصحيفة "فلسطين" بنبرة ثابتة تخفي تحتها وجعًا عميقًا: "عندما فكرت بالنزوح أنا وأولادي رفض طالب الخروج وقال لي: هذا البيت مش بس جدران... هذا البيت أنا، وربّيت أولادي هون، وين بدك أروح؟"
مع كل ليلة جديدة من القصف، كان طالب يودّع حياته كما لو كانت الأخيرة؛ الشظايا مزقت جدران منزله، والسماء لم تعد ترى غير اللهب والدخان، لكنه كان يجد نفسه أكثر التصاقًا بالمكان: "كل طلقة بتمر فوق راسي بتخليني أحس إني لسا عايش، الخوف ما بخوفني، اللي بخوفني أني أموت بعيد عن باب داري".
وفي مارس/آذار 2024، اقتحمت قوات الاحتلال مجمع الشفاء الطبي للمرة الثالثة، وكان القصف عنيفًا طال المنطقة السكنية المحيطة به، فأُصيب طالب بشظايا مباشرة في قدمه داخل منزله. نُقل بصعوبة من بين الركام، لكن بداية المعاناة كانت هناك، لا نهايتها.
تولت زوجته مهمة تغيير جرحه يوميًا، رغم افتقارهم لأي أدوات أو تعقيم مناسب. ومع كونه مريض سكري، بدأ الجرح يتدهور، "كنت أشوف رجله وضعها بتراجع وحرارته بترتفع... بس وين نروح؟ مفيش دكاترة، مفيش أدوية"، تقول زوجته.
وبعد محاولات مضنية لإيجاد من يعاينه، أخبرهم طبيب خاص أن الجرح أصبح مهددًا لحياته، ولا بد من بتر الساق اليسرى فورًا.
لكن الألم لم يتوقف عند البتر؛ فطالب يعاني أيضًا من مرض في الكلى وانحباس بولي، ما يزيد من تعقيد حالته. وتتابع زوجته: "دواء الكلى مش متوفر، ولا المضادات الحيوية، ولا أدوية التبول... زوجي بيصرخ كل ليلة، وأنا عاجزة أعمله شيء".
وما زاد الطين بلة أن طالب لم يخسر فقط جزءًا من جسده، بل خسر أيضًا شغفه بالحياة. تكمل زوجته: "أصبح يرفض تناول الطعام، وما بيحكي، كل وقته نايم... بس نايم عشان يهرب من الوجع، من نفسه، من العجز".
فالوجع النفسي ينهش روحه أكثر من جسده. لقد قضى عمره في العمل وتلبية احتياجات أبنائه وبيته، واليوم بات يشعر بالاكتئاب والعزلة وكأنه عبء على أسرته، خاصة في ظل الظروف القاسية التي يعيشونها.
ومع غياب الأدوية والعلاج والدعم النفسي، تزداد حالته خطورة. تقول زوجته بصوت مخنوق: "يا ريت بس يلاقي حدا يسمعه، أو يخفف عنه... صار يطلب الموت بدل الحياة".
ورغم محاولات الأطباء تجهيز قدم صناعية له، إلا أنه لم يتمكن من التكيف معها، إذ إن البتر كان من فوق الركبة، ما جعل الحركة مؤلمة وصعبة للغاية.
وزادت ظروف الحرب وانعدام الأمن الغذائي معاناته؛ فالرجل الستيني المصاب بالسكري كان بحاجة إلى غذاء صحي ومتوازن يساعد جسده على مقاومة العدوى والشفاء، لكن واقع النزوح والحصار حرمه حتى من ذلك.
تشير زوجته إلى أن الطعام المتوفر كله معلبات، بينما جسده يحتاج إلى شوربة وخضار مسلوقة وفواكه طازجة: "بس هاي الأشياء صارت حلم".
فتقتصر وجباته اليوم على طعام محفوظ لا يلائم حالته الصحية، ما يزيد من خطر المضاعفات. هذا الحرمان من أبسط مقومات التغذية، إلى جانب الألم المزمن والعجز الطبي، جعل أيام طالب تمر مثقلة بالخذلان والفقد.
فلسطين أون لاين