سهم محمد العبادي
عامان مضيا على رحيل الباشا جمال الشوابكة، أبا ماهر. عامان حملا معهما الفقد والحنين، لكنهما لم ينجحا أن يطويا الذكرى. فالروح قد عادت إلى بارئها، أما أثره فما زال ممتدًا في المجالس والدواوين، وما زالت خصاله ماثلة في الذاكرة، كأنها ترفض الغياب.
في الخشافية، بيت أبي ماهر ما زال عامرًا كما كان. ديوانه مفتوح، قهوته تفوح، وأبناؤه النشامى، ورثة الطيب والهيبة، على ذات الدرب يستقبلون الضيوف بالترحيب والكرم. كل من يدخل هناك يشعر أن أبا ماهر حاضر بين الوجوه، يجلس في صدر المجلس، يبتسم ويحيي، يمد يده بالسلام وكأن الزمن لم يمضِ.
كان جمال باشا بوصلة في الوطنية والانتماء، يرشد الرجال إلى الصفوف الأولى، ويؤكد أن الولاء للأردن شرف، وأن خدمة الناس واجب. اسمه ارتبط بالمروءة، وصورته صارت عنوانًا للكرم، وصيته بقيت رمزًا للرجولة الأردنية التي لا تعرف التردد ولا الغياب.
واليوم، وإن خلا مقعده في المجالس، فإن صوته ما زال حاضرًا في أحاديث الرجال، واسمه ما زال يتردد في الدواوين. ومن يجلس في الصفوف الأولى يسمع صدى صيته، ومن يرفع الكلمة الصادقة يلمح ظله. لأنه ببساطة واحد من أولئك الكبار الذين لا يغيبون؛ وجودهم مثل جبال الأردن، ثابت، شامخ، راسخ، حتى وإن غابت الروح عن الأعين.
عامان مرا، لكن الوفاء باقٍ. وما زالت قهوة بيت أبي ماهر تفوح كأنها تُسقى من يده، وما زالت الدار تُفتح وكأن صوته من الداخل يقول: تفضلوا.. البيت بيتكم.
رحمك الله يا أبا ماهر، فقد تركت لنا سيرةً تُروى، وحكاية أردنية خالدة، تُعلّم الأجيال أن الرجال الكبار لا يرحلون، بل يتحولون إلى قدوة وذاكرة لا تزول.
(الفاتحة)