أخبار اليوم - في أحد أحياء غرب مدينة غزة، وتحديدًا في شارع أبو حصيرة، اتخذ محمد الربعي، الأب الأربعيني، قرارًا حاسمًا بترك منزله في وسط المدينة، بعدما أصبحت نوافذه ترتجف من هدير الطائرات، وجدرانه تمتص رجفات الصغار من شدة القصف. لم يكن النزوح خيارًا سهلاً، لكنه كان محاولة لحماية أسرته من موت يتسلل من السماء دون إنذار.
يقول محمد لصحيفة "فلسطين": "ما حدا بيترك بيته برضاه، بس لما تسمع القصف يقرّب، وكل يوم تشوف عمارة نازلين تحتها أطفال، بتصير تفكر بالأمان أكتر من الطين والحجارة".
حمل محمد أطفاله وأوراقهم الثبوتية وبعض الملابس، وتوجه غربًا إلى بيت أحد أقاربه في شارع أبو حصيرة، ظنًا أنه سيكون أكثر أمنًا. لكن الحرب في غزة لا تعترف بالجغرافيا. فبعد مدة قصيرة من استقرارهم، باغتتهم قذائف الاحتلال التي استهدفت منطقة مجاورة، وتطايرت الشظايا في كل اتجاه.
تبدد الإحساس بالأمان، وتحول إلى خوف أكبر، خاصة بعدما اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي مستشفى الشفاء للمرة الثالثة. يتابع محمد حديثه: "كل شيء صار بلحظة... كنا نحاول نعيش طبيعي ونخفف من سيطرة الخوف والتوتر على أبنائي. جلسنا نجهز مائدة الإفطار واجتمعنا حولها مع حلول أذان المغرب، وفجأة ارتج كل شيء".
كانت اللحظة الأقسى في حياته حين استشهدت ابنته البالغة 14 عامًا، وشقيقها الذي لم يتجاوز السابعة، أمام ناظريه أشلاءً ممزقة، بينما أصيب باقي أفراد الأسرة بجروح متفاوتة، أخطرها إصابة ابنه عبد المجيد (19 عامًا).
ما زال محمد يعيش كوابيس ذلك اليوم، يقول: "كان أبنائي يلتفون حول مائدة الإفطار ينتظرون أذان المغرب ليكسروا صيامهم، فاستشهدوا وهم صائمون، وانقلبت السفرة رأسًا على عقب".
مرت دقائق طويلة وثقيلة بينما كانت العائلة تنتظر الإسعاف. يروي محمد بصوت مثقل بالوجع: "اتصلنا على الإسعاف ولم يستطع القدوم بسبب خطورة الوضع في المنطقة، فاتصلنا بالهلال الأحمر، لكنه طلب منا الانتظار ريثما يتواصل مع الصليب الأحمر لعمل تنسيق".
لم يحتمل محمد الانتظار وهو يرى طفليه شهيدين وعبد المجيد ينزف أمامه، فاضطر للمجازفة بنفسه وبزوجته التي تعمل في مجال التمريض. يقول: "حاولت بصعوبة تشغيل سيارتي الخاصة، وانطلقت بهم جميعًا إلى مستشفى المعمداني. كان عبد المجيد قد فقد أربعة لترات من دمه، وكان يفترض أن تجرى له عملية عاجلة في رجله اليمنى، لكنها تأجلت 24 ساعة، ثم بعد 48 ساعة اضطر الأطباء لبتر ساقه من تحت الركبة بعدما بدأ الجرح يتعفن وتفوح منه رائحة كريهة".
يعاني عبد المجيد، إلى جانب ألم البتر، من جروح واسعة تكشف أجزاء داخلية من جسده، وشظايا مستقرة قرب العمود الفقري، إضافة إلى برغي في منطقة الحوض، فضلًا عن حاجته لعمليات تجميل. يقول والده: "منظر جسده يقشعر له الأبدان".
طوال فترة مكوثه في المستشفى، كانت والدته ممرضته الأولى، تحاول بقدر استطاعتها تخفيف أوجاعه.
يحاول عبد المجيد اليوم أن يتجاوز إصابته بعد تركيب طرف صناعي، يضيف والده محمد: "كان المفترض أن يكون قد أنهى الثانوية العامة والتحق بالجامعة، أما اليوم فيجلس ينتظر أين ستأخذه الأيام. أحيانًا يزعل على نفسه ويقول لي: لو عندي رجل ما صار فيا هيك".
اليوم، تعيش عائلة الربعي على أمل السفر لاستكمال علاج عبد المجيد. يقول محمد: "إحنا بندور على حياة، مش بس نجاة. بدنا نكمل... رغم الحرب، رغم الفقد، ورغم الألم"