أخبار اليوم - على طرقات امتلأت بالركام، وتحت شمس لاهبة لا ترحم، كانت امرأة أرملة تجر خلفها ستة أطفالٍ بوجوه شاحبة وأقدام متعبة، تقطع عشرين كيلومترًا مشيًا على الأقدام من شمال قطاع غزة إلى جنوبه.
لم يكن النزوح خيارًا بالنسبة للعائلة الغزية، بل فرض قسرًا بعد أن صب جيش الاحتلال الإسرائيلي نيرانه على منطقة سكنهم، فدمر بيتهم وقتل زوجها، ليبدأ فصلُ معاناة جديد لعائلة الشهيد تيسير الشرباصي.
تقول الأرملة بصوت يختلط فيه التعب بالخذلان لصحيفة "فلسطين": "انتقلنا من منطقة سكننا في شارع الجلاء شمال القطاع إلى تل الهوى بسبب القصف الشديد، ثم انتقلنا إلى البحر بعد أن قالوا إنه آمن، قبل أن يسقط الاحتلال مناشير تأمر السكان بالتوجه جنوبًا تحت تهديد الموت".
لم تمتلك الأم ثمن المواصلات، فحملت حقيبة صغيرة وانطلقت بأطفالها سيرًا من ساعات الظهر حتى منتصف الليل. ضاع بعضهم وسط الزحام، ووقع آخرون من التعب والجوع، ومع ذلك واصلت السير بخطوات منهكة.
لكن الوصول إلى الجنوب لم يكن نهاية العذاب؛ أربعة أيام كاملة قضتها العائلة على الإسفلت بلا خيمة ولا مأوى، تفترش الأرض وتلتحف السماء، فيما البرد يلسع أجساد الأطفال الصغار. كانت الأم تنتظر مكانًا يسترهم من خوف الشتاء.
ولم تكن رحلة النزوح هذه الأولى بالنسبة للعائلة، فقد تكررت مرات عدة. تتنهد الأم وتقول: "نزحنا أول مرة إلى الجنوب نهاية 2023، ثم عدنا إلى الشمال بعد اتفاق وقف إطلاق النار في يناير الماضي، فعدنا. وفي كل مرة نفس الوعود الكاذبة. الاحتلال قال الجنوب آمن، فذهبنا ولم نجد شيئًا.. كلها أكاذيب. الاحتلال لا يقدم لنا إلا القتل والدمار".
زوجها الشهيد تيسير، كان قد اتخذ قراره بالبقاء في البيت رغم القصف والتهديدات، فأبى الخروج، حتى استشهد: "قال لن أترك البيت. واستشهد وهو متمسك به. أما أنا، فقد أخذت الأولاد لأحفظ أرواحهم. تركته شهيدًا خلفي، وأنا أحمل عبء ستة أطفال وحدي".
تبدو المأساة أكبر حين نتأمل وجوه الأطفال، فأكبرهم لم يتجاوز 19 عامًا، وغير قادر تحمل مسؤولية أسرة كاملة بلا أب ولا سند، في حين أصغرهم في الرابعة من عمره، بالكاد يتذكر والده. تقول الأم بحزن: "حين أقول له تتذكر بابا؟ يجيب: لا.. نسي ملامحه. الاحتلال لم يقتل والده فقط، بل محا صورته من ذاكرة أطفاله".
الأكثر وجعًا في الرحلة كانت الطفلة "تالا"، التي تعاني من مشكلة في رجلها بسبب ورم دماغي قديم. كانت تمشي ببطء وتجرّ قدمها جرًا، ومع ذلك شاركت في رحلة النزوح الطويلة. تصف الأم ذلك المشهد: "كل خطوة بالنسبة لها صرخة. كانت تبكي وتستغيث، وأنا عاجزة عن حملها، أكتفي بتشجعيها على مواصلة السير".
تقول الأرملة وهي تضع يدها على قلبها: "لو كان زوجي حيًا لخفف عني الحمل، كان ليتحمل المسؤولية معي. الآن أنا وحدي، أبحث عن مأوى لأولادي، وحدي أتحمل القرارات، وحدي أواجه الجوع والخوف والبرد. كل شيء فوق كتفي. لم يعد لي إلا أن أقول: حسبنا الله ونعم الوكيل".
المصدر / فلسطين أون لاين