هكذا تدار صناعة الخوف من المسلمين في فرنسا

mainThumb
هكذا تدار صناعة الخوف من المسلمين في فرنسا

25-11-2025 01:45 PM

printIcon

الإسلاموفوبيا كفكرة قارة في فرنسا


أخبار اليوم -  تعبير الفكرة القارّة "idée fixe"، في اللغة الفرنسية، يشير إلى حالة تتأرجح ما بين العناد وضيق الأفق والهوس، ورفض صاحبها التحول عن الفكرة التي يؤمن بها ويُروج لها، وبالأحرى مراجعتها.

وقد نُقل التعبير إلى الإنجليزية بأصله الفرنسي، idee fixe (مع حذف العلامة لأن العلامة لا توجد في اللغة الإنجليزية) ككثير من التعابير التي ترتبط بسياق ثقافي معين، ويصعب سلخها عنه، فتبقى في أصلها اللغوي، حتى في لغات أخرى.

والإسلاموفوبيا، فكرة قارة في فرنسا، أو على الأصح، هي فكرة قارة لدى توجهات مهيمنة من أصحاب القرار، وبعض ممن يصنعون الرأي العام، وتدخل فيما يسمى بـ "المشكل الإسلامي"، أو ما يُنظر إليه على أنه مشكل.

اغتنت الإسلاموفوبيا بمعطى جديد في أعقاب الذكرى العاشرة للهجمات الإرهابية المعروفة بالباتكلان، والتي ضربت باريس، بصدور استطلاع رأي عن حالة تدين المسلمين في فرنسا، دعت له مجلة يمينية، تحمل اسم "شاشة اليقظة".

ومؤدى الاستطلاع أن التدين مستشرٍ في صفوف الشباب، وأن واحدا من أربعة من الفرنسيين المسلمين ملتزمون بشعائر الإسلام، ويفشو الحجاب في صفوف الفتيات.

وما يستخلصه التقرير، بناء على الاستطلاع، هو النزوع نحو التطرف، وأن الأسلمة، خطوة نحو إغراء التوجهات الإسلاموية، أي إن هناك علاقة بين التدين والتطرف.

الإسلاموفوبيا ليست مجرد تصرفات ضد الإسلام وضد المسلمين في الغرب، وإنما توجه، وهي لذلك تختلف عن العنصرية، وهي ليست شأن الفئات الدنيا من المجتمع، أي الطبقات الشعبية التي تغلب عليها الأحكام المسبقة في احتكاكها بمن هو قريب من أوضاعها الاجتماعية، ونقص التعلم

وقد أثار الاستطلاع نقاشا مستفيضا في فرنسا، وبلغ رذاذه وزارة الداخلية، وانبرى محللون وصحفيون، في الشاشات والمواقع والجرائد، للتحذير من "الأسلمة الزاحفة"، و"إعادة الأسلمة"، و"التقدم المقلق لمظاهر التدين"، و"الانخراط في الأطروحات الراديكالية"، و"سمو قواعد الشريعة على قوانين الجمهورية".

ولكن رؤى حصيفة رسمت مسافة من الاستطلاع؛ لأن الاستطلاع ليس الحقيقة، وقد يكون ما يراد له أن يكون "حقيقة"، أي إنه مُوجَه، وهو نوع من القولبة تحت غطاء الحياد العلمي، والحال أن العينة ليست بالضرورة مُعبرة (ألف حالة)، والأسئلة موجهة، وطريقة الاستجواب عبر الهاتف غير مؤتمنة، وتاريخ النشر لم يكن بريئا، يتزامن مع الذكرى العاشرة للأعمال الإرهابية التي ضربت باريس.


الاستطلاع يعبر عن زيغ منهجي، يسهم في خلق المشكل لا في حله، ويضفي طابعا علميا على ما هو أحكام مسبقة، ورؤى أيديولوجية ودعائية راسخة. بل حتى النتيجة التي ينتهي إليها لا تسلم من مساءلة: هل هناك علاقة ما بين التدين والتطرف؟

يكاد المرء أن يقول بعد نشر الاستطلاع، والتعليقات التي أعقبته، لا شيءَ جديدا تحت الشمس، على ضفاف السين، وإنها نبرة جديدة من توجه عارم لما يسمى الإسلاموفوبيا، في بلد "الأنوار"، بعد تقرير الإسلام السياسي الذي صدر في يونيو/حزيران المنصرم، ويُحذر من خطر التغلغل، أي إن مصدر الخطر ليس مقتصرا على التوجهات السلفية، (كذا من غير توصيف)، أو الراديكالية الإسلامية، والتي تقع تحت طائلة المقاربة الأمنية، من جمعيات معترف بها، تندرج في الإسلام السياسي، أي إنها لا تدعو للعنف، ولا تمارسه، وتشتغل في النسيج الجمعوي، ولكنها لا تقل خطورة عن الاتجاهات الراديكالية، من منظور أصحاب مذكرة الإسلام السياسي؛ لأنها تنطوي على ما يُسمى بالتغلغل.

استطلاع “حالة التدين” وتغذية المخيال المعادي
الاستطلاع الأخير، ولو أنه ليس قانونا، كما قانون ما يسمى الانفصالية الإسلامية، ونُعت بالقانون الداعم للعلمانية (أغسطس/آب 2021)، ولا مذكرة صادرة عن جهات رسمية، كما مذكرة "الإسلام السياسي" (يونيو/حزيران من هذه السنة) الصادرة عن وزارة الداخلية، يسهم في إضفاء "شرعية" سيوسيولوجية على الإسلاموفوبيا، من خلال التحذير من مظاهر التدين.

يبدو الاستطلاع حول حالة التدين في فرنسا مثل المستوى الثالث لبناء، أساسه القانون ضد الانفصالية الإسلامية، أو قانون الدعم للعلمانية الجديد، والمستوى الثاني، مذكرة وزارة الداخلية، حول الإسلام السياسي، والتي تريد أن تتصدى للجمعيات من مرجعية الإسلام السياسي، والمستوى الثالث، يستهدف المجتمع، أو شريحة المسلمين عامة، وهو ما يوحي إليه الاستطلاع المشار إليه.

الإسلاموفوبيا ليست مجرد تصرفات ضد الإسلام وضد المسلمين في الغرب، وإنما هي توجه، وهي لذلك تختلف عن العنصرية، وهي ليست شأن الفئات الدنيا من المجتمع، أي الطبقات الشعبية التي تغلب عليها الأحكام المسبقة في احتكاكها بمن هو قريب من أوضاعها الاجتماعية، ونقص التعلم.

تُغذي الإسلاموفويبا شرائح متعلمة ونافذة ومؤثرة، في الإعلام، والمجال الأكاديمي، وتنبني على مرجعية، وتندرج في الاستمرارية، ذلك أن الإسلاموفوبيا تقترن بشيء لصيق بها وهو صناعة الإسلاموفوبيا، أسوة بصناعة الهولوكوست، أي تغذية مخيال وقولبته وتوجيهه، بناء على تصور، لخطر قائم، أو محتمل أو متصور.

والغالب أن يكون متصورا؛ لأن المجتمعات كما بيّن العالم الأنثروبولوجي الفرنسي "رونيه جيرار" في عمله المرجعي: "كبش الضحية"، أن المجتمعات، حين تواجه أزمات وأسئلة وجودية، تبحث عن كبش فداء تُحمله مسؤولية ما تعانيه من مآسٍ، حتى لو كان هذا "الخطر" مجرد تصور أو خيال جماعي أكثر منه واقعا فعليا.

المسلم بوصفه "العدو الضروري" في المخيال الفرنسي
ويتأرجح شعور الاستعداء ما بين الاضطهاد والشيطنة، ويمكن التعرض للعدو الافتراضي مباشرة، والتنكيل به، أو تقديم قرابين للبُرء من "لعنته"، ومنه التيس الذي يحمل عن الجماعة اليهودية آثامها، أو مؤسسات قضائية تضطلع بذلك، كما محاكم التفتيش، أو قوانين يتم تبينها، وهو الشكل "المتقدم" في مواجهة "العدو الضروري".


يضطلع المسلم في أوروبا عموما، وفي فرنسا خصوصا، بدور "العدو الضروري". ينبني شعور الاستعداء على تصور قائم، وذاكرة مختزَلة، وقراءة موجهة، وأحداث معينة يتم تضخيمها واستغلالها، وفق ما يسمى قاعدة غور "Gore"، أي التركيز على حدث ما، وتكراره، والتغاضي عن أحداث أخرى.

يتم بناء العدو في خلط مقصود، أو غير متبين، ما بين السبب والنتيجة. ينطلق التصور من فرضية أن المسلمين غير قابلين للاندماج في المجتمعات الغربية عموما، وفي فرنسا خصوصا، ولا يتم طرح التساؤل عن علة عدم الاندماج، ولا يتم الوقوف عن ضعف عناصر التنشئة، من مدرسة، وشغل، وسكن، وضعف العلاقات المجتمعية في مناحي الحياة العامة.

الاستنجاد بالانتماءات الهوياتية، هو كما يقول بذلك عالمون حصيفون: "محاولة للالتفاف على أوضاع اجتماعية". وبتعبير آخر، الاستمساك بالهوية هو رد فعل عن عدم الإدماج.

ما هو نتيجة يغدو سببا، وفي ذلك زيغ منهجي سافر، أو ما يسمى في العلوم الإنسانية "Metonymy" أي الخلط ما بين السبب والنتيجة، أو التركيز على عنصر واحد، وتجاهل عناصر أخرى، كأن لا يُرى في شريحة معينة إلا عنصر واحد، وهو هنا الإسلام من غير تمييز، والتجاهل المتعمد، الغالبيةَ من المسلمين ممن يندرجون في النسيج الوطني.

"العدو الضروري" هو تحايل، والتفاف على مصدر الداء، أو الأزمة الوجودية التي يجتازها مجتمع ما.

تتداخل في فرنسا وفي غيرها، الإسلاموفوبيا، والهجرة، وما يسمى بخطر الاستبدال الكبير. والحال أن الهجرة عنصر مقترن بالمجتمعات الحديثة ، وأن المهاجرين ساهموا ويساهمون في الاقتصاد الغربي، وأن الهويات متطورة، وأن سبيل التغلب على مشاكل عالقة ليس في محاكمات غيابية، أو أحكام جاهزة، ولكن في الحوار، والمقاربة العلمية الحقيقية.