قانون النفقة الجديد .. إنقاذ للأب المتعثر أم فتح باب أوسع للهروب من المسؤولية؟

mainThumb
قانون النفقة الجديد.. إنقاذ للأب المتعثر أم فتح باب أوسع للهروب من المسؤولية؟

04-12-2025 01:57 PM

printIcon


أخبار اليوم - يخرج النقاش حول تعديل مواد الحبس في قضايا النفقة من إطار بند قانوني ضيّق إلى مساحة أوسع تمس صورة الأسرة في الأردن، ومفهوم العدالة بين الرجل والمرأة، ومصير آلاف الأطفال العالقين بين أبوين منفصلين وقانون يتغيّر. بين من يرى في التعديل خطوة ضرورية لحماية المتعثر اقتصاديًا، ومن يراه هدية مجانية لمن يتهرّب عن قصد من حقوق أبنائه، جاءت ردود الفعل حادة، مكثفة، ومشحونة بتجارب شخصية وقصص مؤلمة من واقع المحاكم الشرعية.

جوهر التعديل يقوم على استبدال الحبس في قضايا النفقة بإجراءات بديلة، مثل السوار الإلكتروني، ومنع السفر، وتقييد بعض الخدمات. أنصار هذا الاتجاه ينطلقون من قاعدة أنّ الحبس لا يطعم طفلًا، ولا يرفع دينًا، وأن الرجل الذي يجلس خلف القضبان يفقد قدرته على العمل والكسب، فيتحول من معيل محتمل إلى عبء على أسرته والدولة معًا. هؤلاء يدعون إلى تحويل العقوبة من سالبة للحرية إلى ضغوط اقتصادية منضبطة، عبر الحجز على الدخل والأرصدة، وربط البيانات بين الجهات الرسمية، ومنع إساءة استخدام الشيكات والالتزامات المالية، بحيث تُحصّل الحقوق دون اللجوء إلى الزنزانة.

في المقابل، يرى تيار واسع من المواطنين أنّ المشكلة لا تتعلق بشكل الأداة العقابية فقط، بل في الرسالة التي يرسلها القانون. فحين يشعر بعض الأزواج أنّهم في مأمن من الحبس، يخشى كثيرون أن تتراجع جدية الالتزام بالنفقة، وأن تزيد حالات المماطلة والتلاعب بحقيقة الدخل وأماكن العمل، في مجتمع يعاني أصلًا من بطالة مرتفعة وضغوط معيشية قاسية. وتذهب أصوات غاضبة إلى أبعد من ذلك، فتتحدث عن “تجارة زواج” نشأت على هامش منظومة الحقوق، حيث يجري تضخيم المؤخر، واستثمار بند النفقة والمسكن وبدل الرعاية، بصورة تحوّل الطلاق إلى صفقة وربح مؤكد لطرف واحد، بينما يخرج الطرف الآخر ملاحقًا بالقضايا والديون.

بين هذين الطرفين تقف قضية الحضانة بندًا شديد الحساسية. فجزء معتبر من المعلقين على التعديل لا يرى في النفقة وحدها أصل الإشكال، بل يعتبر أنّ الخلل الأعمق يكمن في واقع حضانة الأبناء، وشعور عدد كبير من الآباء أنّهم مطالبون بالدفع دون أن تكون لهم فرصة حقيقية في تربية أولادهم أو مرافقتهم في مراحل نموهم. ترتفع هنا أصوات تنادي بإعادة النظر في سن الحضانة وترتيباتها، وبمنح الأب حقًا أوضح في مشاركة التربية، بحيث لا تتحول النفقة إلى رابط مالي بارد بين شخصين انفصلت حياتهما، بينما ينشأ طفل ممزقًا بين خطابَين متصارعين.

في الجهة الأخرى، تأتي ردود قوية من أمهات ونساء يرين أنّ أي نقاش يختزل القضية في “تهديد الرجل” يغفل أصل المعاناة؛ فهناك أمهات يعشن وحدهن مع أطفالهن بعد طلاق قاسٍ، يعتمدن على نفقة محدودة لا تكفي لتغطية أساسيات الحياة، ثم يجدن أنفسهن أمام مقترحات تشريعية تخفف القبضة على الملتزمين بالنفقة في مجتمع لا يملك نظام رعاية اجتماعية شامل. بالنسبة لهن، الحبس ليس هدفًا، بل وسيلة ضغط أخيرة على أب قادر يتعمد التهرب، في الوقت الذي تزداد فيه كلفة السكن والغذاء والتعليم والعلاج.

الخطاب الديني حاضر بقوة في النقاش. فريق واسع يستدعي نصوص الشريعة، فيؤكد أنّ الأصل هو تطبيق أحكام القرآن والسنة في النفقة والحضانة، وأن العبء الأكبر في الإعالة يقع على عاتق الأب ما دام قادرًا، مع وجوب مراعاة طاقته وعدم تكليفه بما يعجز عنه. آخرون يطالبون بتمييز واضح بين المتعثر صادق العجز، وبين من يملك المال ويرفض الدفع نكاية أو تهربًا، ويشدّدون على أنّ “لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها” تعني حماية الفقير لا حماية العابث بحقوق أولاده. في المقابل، تتجه بعض الأصوات إلى اتهام المنظمات النسوية والقوانين الدولية بتغليب طرف على حساب آخر، بينما يرد جزء من النساء بأنّ هذه القوانين جاءت أصلًا لحمايتهن من ظلم طويل، وأن الخلل في طريقة التطبيق والانحيازات الاجتماعية، لا في مبدأ حماية المرأة والطفل.

وراء العبارات القاسية التي يتبادلها الناس، تقف حكايات فردية تشرح عمق الأزمة. أب متعثر فقد عمله يروي كيف تراكمت عليه النفقات حتى صار مطلوبًا للحبس، وأم مطلّقة تتحدث عن ديون تراكمت عليها لتسد فراغ نفقة لا تصل أو تصل منقوصة بعد خصومات وسنوات تقاضٍ، وشباب يعلنون بصراحة أنّهم يخافون الزواج بسبب ما يسمونه “قوانين قاسية” لا تفرّق – في رأيهم – بين من يهمل ومن يعجز. في المقابل، تظهر شهادات نساء يرفضن أن يصبّ النقاش كله في خانة “تجارة الزواج”، ويذكّرن بأنّ هناك أمهات يتحملن وحدهن عبء التربية والوصمة الاجتماعية، وأنّ أي تعديل لا يضمن استمرار الحد الأدنى من الحماية الاقتصادية لهن ولأطفالهن قد يفتح الباب لمزيد من الانكسارات داخل الأسرة.

المقلق في هذا المشهد أنّ الطفل كثيرًا ما يختفي من مركز الحوار. الحديث يدور عن حقوق الرجل، وحقوق المرأة، وامتيازات المحامين، وحدود صلاحيات القضاة، بينما يبقى السؤال الجوهري أقل حضورًا: كيف ينعكس هذا التعديل على طفل يحتاج إلى سكن آمن، ومدرسة مستقرة، وصورة غير مشوّهة عن أبيه وأمه؟ القانون، في النهاية، لا يكتب نصًا للعقوبة فقط، بل يرسم شكل العلاقة بعد الانفصال، ويحدد هل يبقى الخلاف بين الأبوين نزاعًا على المال، أم يتحوّل إلى إطار جديد لممارسة مسؤولية مشتركة تجاه الأبناء.

التعديل وحده لا يصنع عدالة، كما أنّ الحبس وحده لا يصنع التزامًا. ما لم يُبنَ النقاش حول منظومة متكاملة تشمل الحضانة، والنفقة، ودعم الأسر المتعثرة، وآليات التسوية المبكرة، وتفعيل صناديق اجتماعية قادرة على التدخل قبل أن يصل الأب إلى السجن أو السوار، سيبقى كل تغيير في مادة قانونية شرارة جديدة لنقاش حاد من النوع الذي ظهر خلال الساعات الماضية. السؤال الذي يفرض نفسه في ختام هذا النقاش الموسع: هل نتعامل مع ملف الأسرة والنفقة باعتباره فرصة لإعادة بناء ثقة وعدالة وشراكة بين المرأة والرجل والطفل، أم نستمر في تبادل الاتهامات وترك القانون يطارد الأعراض لا الأسباب؟