أخبار اليوم - تتصاعد في الشارع الأردني خلال السنوات الأخيرة نبرة الأسئلة القلقة حول الطلاق والنفقة والحضانة، حتى صار كثيرون يتحدثون عن أن الطلاق لم يعد حلاً استثنائياً يُلجأ إليه بعد استنفاد كل الوسائل، بل خيارًا سريعًا يُطرح عند أول خلاف، ثم تبدأ بعدها معركة جديدة عنوانها: من يدفع الثمن؟ ومن يتحمّل عبء النفقة والأطفال والمستقبل المجهول؟
في قلب النقاش تبرز قضية النفقة بوصفها واحدة من أكثر الملفات حساسية، ففئة واسعة من الأردنيين ترى أن النفقة حق شرعي وقانوني ثابت للأبناء، لا يجوز المساس به أو وصفه بالعبء، وأن الرجل الذي اختار الزواج والإنجاب لا يملك أن يتنصّل من مسؤولياته المالية تجاه أبنائه مهما تغيرت علاقته بزوجته، لأن الأبناء لا ذنب لهم في خلافات الكبار، وهم أوّل من يدفع ثمن الخلاف والطلاق. هذه الأصوات تؤكد أن النفقة ليست منّة ولا تفضّلاً، وإنما واجب ديني وأخلاقي قبل أن تكون حكمًا قضائيًا.
في المقابل، يظهر تيار آخر غاضب يتحدث عن النفقات بوصفها عبئًا خانقًا على كاهل كثير من الآباء، خصوصًا مع ارتفاع كلفة المعيشة وضعف الفرص الاقتصادية، ويعتبر أن القوانين الحالية – كما يراها أصحاب هذا الرأي – منحت بعض الزوجات مساحة لاستغلال الملف المالي وتحويل النفقة إلى أداة ضغط أو “مشروع دائم للدخل”، على حد تعبيرهم، وأن بعض حالات الطلاق تحوّل الأب إلى “صراف آلي” لا دور له في التربية والتوجيه ولا في حياة أبنائه إلا عبر الحوالة الشهرية.
ما بين هذين الموقفين يتحول النقاش سريعًا إلى سؤال أكثر عمقًا: هل المشكلة في القانون وحده، أم في طريقة فهم الزواج من الأساس؟ كثير من الآراء تصف جزءًا من حالات الزواج اليوم بأنها “زواج خاطئ” منذ اللحظة الأولى؛ اختيارات مبنية على شكل وظاهر ومصلحة مادية ومظاهر اجتماعية، لا على دين وأخلاق وتكافؤ ومسؤولية. وحين يُبنى البيت على أسس مضطربة، يكفي خلاف مالي، أو مشكلة عائلية، أو كلمة قاسية حتى يُطرح الطلاق كخيار جاهز، بدل أن يكون آخر الدواء.
جانب آخر من النقاش يذهب نحو سنّ الحضانة وطبيعة العلاقة مع الأطفال بعد الطلاق، فهناك من يطالب بتخفيض سن الحضانة أو إعادة النظر فيه، بحجّة أن الأب يتحمل النفقة دون أن يشارك فعليًا في تربية أولاده، وأن من حقّه أن يكون شريكًا أصيلاً في حياتهم لا زائرًا لساعات محدودة. في مقابل ذلك، تصرّ أصوات كثيرة على أن الأم أكثر التصاقًا بالأبناء في السنوات الأولى، وأن نقل الحضانة بشكل مبكر قد يفتح الباب لمشكلات نفسية واجتماعية أكبر، وأن الحل يكمن في تنظيم علاقة متوازنة تكفل للأب حقه في رؤية أبنائه ومشاركتهم حياتهم، وتحفظ للأم استقرارها وكرامتها.
ولا يغيب البعد الشرعي والفكري عن النقاش، إذ يحمّل بعض المتحدثين الاتفاقيات الدولية وتعديلات القوانين جزءًا من المسؤولية عن تفكك الأسرة وارتفاع معدلات الطلاق، بينما يرد آخرون بأن المشكلة ليست في النصوص بقدر ما هي في النفوس، وأن كثيرًا من المآسي الأسرية ترتبط بضعف الوازع الديني، وغياب ثقافة الحوار داخل البيت، وتحويل الخلاف الزوجي إلى “معركة كسر عظم” ينتصر فيها طرف على آخر، وينهزم فيها الأبناء جميعًا.
وسط هذا الجدل، يخرج رأي ثالث يحاول أن يوفّق بين الجميع، فيدعو إلى مراجعة شاملة للمنظومة من بدايتها، بدءًا من ثقافة الاختيار قبل الزواج، ومرورًا ببرامج التوعية والإرشاد الأسري، ووصولاً إلى آليات التقاضي والتنفيذ في المحاكم الشرعية. هؤلاء يطالبون بأن تُعامَل قضايا الأسرة بمنطق الوقاية قبل العلاج، وأن يكون الدور الأساسي للمؤسسات الدينية والاجتماعية والقانونية هو منع انهيار البيت قبل وقوع الطلاق، لا الاكتفاء بتنظيم ما بعد الانهيار.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم معلّقًا في هواء النقاش الأردني: كيف يمكن أن تتحول النفقة من “جرح مفتوح” بين الزوجين إلى التزام مشترك بحماية الأطفال؟ وكيف نستطيع أن نعيد الزواج إلى معناه الأصلي؛ ميثاقًا غليظًا ومسؤولية دائمة، لا خطوة متسرعة تنتهي عند أول خلاف بورقة طلاق، وحكم نفقة، وقلب طفل لا يعرف على من يغضب، وعلى من يسامح؟