أخبار اليوم - في زمن الحرب والحصار، حين يُفقد الأمان وتنهار سبل العيش، تعود وسائل قديمة للحياة. في قطاع غزة، حيث دمرت حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023 بنية الاقتصاد الهش، وانعدمت القدرة الشرائية لغالبية الأهالي، لم يجد الناس بديلاً سوى العودة إلى أحد أقدم أشكال التجارة وهي المقايضة.
بغياب السيولة النقدية وارتفاع أسعار المواد الأساسية لأرقام فلكية، انتشرت بين الأهالي ظاهرة "التبادل العيني"، حيث بات الناس يقايضون ما لديهم من سلع بما يحتاجون إليه. فربما تُبدل عبوة زيت بكيلو من السكر، أو كيس عدس بقطعة ملابس، أو حتى علبة دواء بحليب للأطفال، أو كيلوان من الغاز مقابل كيس من الدقيق.
المقايضة الرقمية
يقول عبد الله النجار، من سكان حي الزيتون، إن الفكرة بدأت لديه حين عجز عن شراء الحليب لرضيعته:" لم أستلم راتبي منذ شهرين، وحليب الأطفال غالي، ولدي كيس أرز يمكنني الاستغناء عنه، عرضته في مجموعة على فيسبوك، واستبدلته بعلبة حليب لطفلتي، لم أتوقع أن ينجح الأمر".
ويتابع النجار لصحيفة "فلسطين":" بل وتفاجئت بالاقبال الكبير على المنشور، وفي التعليقات كان الناس يتبادلون كل ما لديهم، مع ما يحتاجونه ويتوفر لدى الآخرين، ولا يستبدلون الأغذية الأساسية بل أيضا الثانوية كالنسكافيه، والبسكويت، والشيبسي، والشوكولاتة مقابل الدقيق مثلا، أو السكر".
أسواق المقايضة على الأرض وفي الفضاء الرقمي، صفحات على فيسبوك وتليغرام، والواتس آب خصصت للمقايضة، تحوي مئات المنشورات يومياً، وتُستخدم كوسيط رقمي للتبادل.
حتى بعض المحال التجارية الصغيرة، وأصحاب البسطات المنتشرة في الأسواق بدأت تقبل المقايضة، كأن يقدم الزبون سلعة مقابل سلعة أخرى.
يقول علاء النادي صاحب بسطة في سوق الصحابة شرق مدينة غزة،"صرت أقبل تبديل السكر بعبوة الزيت، أو كيلو من الدقيق بدلا من ثلاثة علب تونة، للزبائن الذين لا يمتلكون المال، دون أن أحقق أي ربح منهم، ولكن من مبدأ المساعدة، والتخفيف عن الناس، لأنه كلنا في الهوا سوا."
ويردف النادي لصحيفة "فلسطين" :"قبل شهر لم تكن المقايضة شائعة مثلما عليه اليوم، العديد من الزبائن يأتون يوميا لدي، لتبديل سلع مقابل سلع، فالأسعار في ارتفاع جنوني بسرعة رهيبة، والكثير منهم لا يملك المال، وأكثر ما يبحثون عنه الدقيق، والسكر، والزيت، وصلصة الطماطم".
ومن الأسباب التي دفعت الناس للعودة إلى المقايضة انهيار القدرة الشرائية: أكثر من 80% من سكان غزة اليوم تحت خط الفقر المدقع، شلل النظام البنكي: توقف التحويلات، وعدم توفر الرواتب، وغياب المساعدات الدولية الكافية.
كذلك تدمير الاقتصاد المحلي بفعل القصف الإسرائيلي الواسع، حيث تضررت الأسواق والمخازن ومصانع الإنتاج، مع غياب الدعم الدولي الفعال رغم الدعوات الأممية، ولم تصل إمدادات كافية، مما جعل الناس يعتمدون على أنفسهم.
سلاح للبقاء
سلمى الكرد، أم لستة أطفال من مخيم الشاطىء، تقول:"عندي ملابس أطفال مقاساتها لم تعد مناسبة لأطفالي، لذا قمت باستبدالها مع جارتي التي كانت تبحث عن ملابس لطفلتها، مقابل كيلو من الطحين. مش مهم الشكل، المهم نشبع. إحنا شعب ما بنستسلم."
رغم أن المقايضة تُظهر روح التعاون والتكافل بين أبناء الشعب الفلسطيني، إلا أنها تكشف أيضاً عن مدى الانهيار الاقتصادي، وغياب أبسط مقومات الحياة الكريمة. هي سلاح بيد الناس للبقاء، لكنها في الوقت ذاته صرخة تُعبر عن فشل العالم في حماية المدنيين.
في غزة، أصبح البقاء على قيد الحياة عملية جماعية. تتبدل الأدوار، وتُنسج شبكات دعم من لا يملكون شيئاً إلا إنسانيتهم. المقايضة ليست فقط تبادل سلع، بل تبادل أمل، رسالة أن الحصار والاحتلال والحرب لن تمنع الغزيين من إيجاد طريق للعيش، حتى وإن كان بلا مال.
فلسطين أون لاين