أخبار اليوم - في بيت شبه مدمر غرب مدينة غزة، تجلس عائلة صلاح حول جسدٍ نحيل يعلوه صمت مطبق، لا يقطعه سوى تنهيدة مختنقة من الأب رامي صلاح، وهو يتأمل وجه طفله يوسف الذي لم يبلغ الخامسة عشرة بعد، لكن ملامحه تنطق بتجاعيد الوجع أكثر مما تنطق ببراءة العمر.
يوسف رامي صلاح ليس ككل الأطفال. لم يكن كذلك منذ لحظة ولادته. وُلد بضمور عضلي شديد وثقب في القلب، وأُضيف إلى قائمة الأمراض عجزٌ عن الكلام وعدم القدرة على مضغ الطعام. جسده لا يتحرك، ولسانه لا ينطق، لكن عينيه ترويان حكاية طويلة من الألم، حكاية بدأت قبل الحرب وتضاعفت فصولها منذ اندلاعها، حتى باتت تفوق الوصف وتكسر القلوب.
يقول والده لصحيفة "فلسطين": "في الأيام العادية، كان يوسف يحتاج إلى حياة كاملة مختلفة… طعام خاص نطحنه له ليبلعه لأنه لا يستطيع المضغ، حفاضات، أدوية، مستلزمات يومية يصعب توفيرها، فكيف اليوم ونحن تحت نيران الحرب، وسط الحصار والمجاعة؟".
كان يوسف يقيم مع أسرته شمال قطاع غزة، وهناك اعتادوا على وتيرة الحياة الصعبة، لكنهم لم يتخيلوا يومًا أن تأتي لحظة يفرّون فيها حاملين يوسف بين أيديهم، بعد أن دُمّر بيتهم تحت القصف.
يقول الأب: "النزوح في حد ذاته معاناة، أما أن تنزح ومعك طفل مشلول لا يتحرك ولا يتكلم، فهذا نوع من العذاب لا يفهمه إلا من عاشه. تخيّل أن تبحث عن مكان آمن وفي ذات اللحظة تفكر: هل هناك مكان يسع هذا الجسد الهش؟ هل سأجد له حفاضات؟ هل سأجد له شيئًا يبتلعه فلا يختنق؟".
يحكي الأب أن المجاعة التي اجتاحت شمال غزة كانت كفيلة بتحويل حياته إلى ساحة معركة يومية، ليس ضد الجوع فقط، بل ضد الموت الذي يحدّق بطفله يوسف كل لحظة. "كنا نأكل ما نجد، إن وجدنا.
لكن يوسف لا يستطيع أن يأكل مثلنا. يحتاج لطعام خاص يُطحن ويُهرس. كنت أجمع كل ما نملكه من طحين أو عدس أو أرز وأطحنه بأي وسيلة ممكنة. وكنت أبكي كلما رأيته يبلع الطعام بصعوبة، بلا مضغ، وهو يبكي دون صوت".
في هذا الواقع المظلم، لم تكن معاناة يوسف صحية فقط، بل اقتصادية أيضًا. فأسعار الحفاضات تضاعفت بشكل خيالي. "اليوم ثمن الحفاضة الواحدة وصل 20 شيكل. من أين لي بذلك؟ لا عمل، لا دخل، لا طعام، ولا حتى أمل. كل يوم أستيقظ وأنا أفكر: هل أُوفّر طعامًا ليوسف؟ أم حفاضة؟ أم دواء؟".
قبل الحرب، كان رامي يصطحب يوسف إلى مستشفيات الداخل المحتل للعلاج، حيث كان يتلقى الرعاية الطبية اللازمة بين فترة وأخرى. غير أن الاحتلال أدرج اسمه مؤخرًا ضمن قوائم "الممنوعين من السفر"، ليُحرم من آخر نافذة كانت تطل منها الأسرة على شيء من الأمل. "كنت أعود من هناك بشيء من الطمأنينة. أعلم أن هناك من يعتني بيوسف. أما اليوم، فالحصار يُطبِق علينا، لا دواء، لا علاج، لا شيء سوى الحصار والحرب والموت البطيء".
يوسف اليوم مجرد جسد مرهق في خيمة باردة أو فصل دراسي مهدم، تُهدده الأمراض كما تهدده القذائف. عظامه بارزة من تحت جلده، وعيناه تلاحقان كل زائر كأنه يرجو كلمة حنان أو جرعة دفء.
تقول والدته بصوت مرتجف لـ"فلسطين": "لا نريد شيئًا من هذه الدنيا سوى أن يعيش يوسف بكرامة، أن يجد من يطعمه، أن نُبدّل له حفاضاته بلا بكاء على الثمن، أن نحس أنه بشر في زمن نسينا فيه معنى الإنسان".
معاناة يوسف هي معاناة آلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة، لكنها أكثر قسوة لأنها مزدوجة: طفل لا يستطيع التعبير عن ألمه، وعائلة عاجزة أمام عينيه، محاصرة بالمستحيل، مسلوبة الكرامة والقدرة. هي صورة مصغرة لوطن محاصر، مريض، مُقعَد، لكنه ما زال حيًا، ينبض رغم كل شيء.
تلك القصة ليست من نسج الخيال، ولا من أرشيف الحروب القديمة. هي حكاية طفل حي يُدعى يوسف، نُفي من الحياة مرتين: مرة بالمرض، ومرة بالحرب. فهل من قلب يسمع نداء صمته؟ وهل من ضمير يوقن أن الحصار لا يقتل فقط، بل يطفئ نور الطفولة في عيون مثل عيني يوسف؟
المصدر / فلسطين أون لاين