أخبار اليوم - "أنا بنت. مش راح يستهدفوني!" في لحظة أنستها عدد النساء اللواتي قتلهن الاحتلال، توجهت آلاء موسى مودد (36 سنة) برفقة أمها وزوجة عمها وابن الأخيرة وشقيقته الطفلة من خيمة نزوحهم في غرب مدينة غزة إلى منزلهم الواقع بحي الشجاعية شرق المدينة لجلب الطحين من المنزل الأسبوع الماضي، مع اشتداد أزمة الدقيق في قطاع غزة مع حالة تجويع شديدة يعيشها الأهالي.
ورغم أنها تُعرف بين أفراد عائلتها بخوفها من صوت القصف وتخشى الاقتراب من أماكن الاحتكاك مع جيش الاحتلال، تحاملت على مخاوفها في ذلك اليوم، لأجل منع أخوتها الذكور من الذهاب للمنزل. غادرت وهي تضع يدها على قلبها وفي "عينيها نظرة وداع لا عودة" هذا النظرات فسرتها والدتها لاحقًا.
في منطقة مُخلاة، تجوبُ طائراتُ الاحتلال سماءها، ولا يتوقف أصوات القصف المدفعي، "ذهبنا ولم نتوقع أن تكون مرعبة بهذا الشكل، وأحضرنا الطحين. حملت آلاء كيس طحين وجلبت ملابسًا لشقيقتها في كيس آخر، وكل واحدة فينا حملت كيس طحين وغادرنا المنزل على مجموعتين. خرجتُ مع زوجة عمها، ولحقتنا هي بالخلف مع الطفلة مع فارق زمني جعلني لا أراها طوال الطريق" تروي أمها أم محمد مودد (55 سنة) لصحيفة "فلسطين".
لقمة مغمسة بالدم
مع تأخر وصول آلاء للمكان الذي اتفقت فيه مع والدتها على الاجتماع فيه، بدأ الخوف يضرب قلبها، لكن كل احتمالاتها انحصرت في أن ابنتها قد ضلت طريقها، أو تاهت بين شوارع "الشجاعية المدمرة"، رغم أنها بينها وبين نفسها، تدرك أنه احتمالٌ غير منطقي، لأن ابنتها التي ترعرعت بالحي تعرف كل شبرٍ فيه، وتعرف شوارعه الرئيسية بدقة.
لم يكن لدى أمها خيار، سوى الرجوع للبحث عنها. تركت كل شيءٍ أحضرته عند سلفتها، وعادت للبحث عنها، ساعدها أحد الشبان المتواجدين بالمنطقة، إلى أن عثرت عليها مضرجةً بالدماء ممددةً في الشارع. دموعها الآن مرآة لما عاشته يومها، تقف أمام المشهد الذي يتحرك أمامها من جديد: "تعرضت لقنبلة من مسيّرة (كواد كابتر) ووقتها حضر ابن عمها ثم شقيقها، وكانت قدميها ممزقة ومستشهدة على الفور. قمنا بتغطيتها بغطاء ووضعها في بيت جيران، نظرًا لوجود طائرات بالمكان، ثم نقلناها وعدنا بها ودفناها بالمقبرة، ولم نترك جثمانها بالشارع".
لم تكن مهمة إخراج جثمانها سهلة، أمام شقيقها عبد الله الذي وصل المنطقة مع وصول الخبر إليه فهو يعتبر شقيقته آلاء "أمًا ثانية له"، وابن عمها شريف، يروي الأخير لصحيفة "فلسطين" ما عاشوه حينها: "كانت مخاطرة كبيرة، لكننا أصرينا على إكرام الميت ودفنه مهما كلف الثمن، خاصة أنها أنثى. عندما وصلت كانت مسيّرة (كواد كابتر) تحلق على ارتفاع 12 مترًا. ركضت، ووصلت لمكان وجود شقيقها وشاب يحتمون قرب جدار بعيدًا عن رؤية المسيّرة، وجدنا آلاء ممددة وبجانبها الطحين والملابس، اما شقيقتي الطفلة فركضت من شدة الخوف".
استهداف مباشر
ممددة بالطريق وبجانب كيس طحين كانت تحمله، كل شيءٍ كان واضحًا أمام الطائرة المسيّرة ومن يقودها عن بعد، فتاة ترافقها طفلة صغيرة، تحملان أغراضًا لسد رمق جوع أطفال العائلة مع اشتداد المجاعة.
كل هذه المشهد على إنسانيته، لم يشفع للفتاة والطفلة من الاستهداف المباشر، في لحظةٍ، وقفت الطفلة مرعوبة، وهي ترى ابنة عمها آلاء ممددة أمامها بينما نجت هي بجروحٍ وشظايا. ركضت الطفلة للأمام باتجاه أمها وزوجة عمها، بصدمة وخوفٍ، من أن تعاود المسيّرة قصفها، تركض وحيدةً في شارع فارغ، وبيوتٍ مُخلاةٍ، شرّد الاحتلال أهلها.
كانت المسافة أمام الطفلة البالغة من العمر 14 سنة، طويلة وهي تتحامل على جروحها، وتارةً تستند على جدران الطريق، وأعمدته بعدما بدأ التعب ينهكه، والجرح يصدرُ صوتًا مرتفعًا من الألم، الذي بدأت تشعر به، ويشتد عليها.
"كانت آلاء يدي اليمنى بالحياة. ماسكة الدار بكل اشي" تقف الدموع على حافةِ عيني أمها، وتخنق كلماتها: "رغم أنها تخاف الخروج من الخيمة من أجواء الحرب والقصف، إلا أنها آيست على روحها في هذه المرة، وعندما غادرت قالتها لشقيقاتها: "إذا رجعت هيني رجعت" وكأنها كانت تشعر بشيءٍ، وفي كل مرة كنت أرجع للبيت كانت تأتي أختها الأخرى لمرافقتي وليست هي".
لا تستطيع ذاكرة والدتها، حصر المرات التي نزحت فيها العائلة من منزلهم في حي الشجاعية، فالعائلة التي تشبثت بمنزلها ولم تنزح لجنوب القطاع، تشردت بين منازل الأقارب، ومراكز الإيواء بالمدينة، كانت تحب الأطفال، "راضية الكل" تقول أمها.
اتقنت آلاء مهارة التطريز التراثي، كانت تجد في التراث ملاذها لصناعةِ شيءٍ يؤكد تجذرها بهويتها الفلسطينية، فعلى مشغولات يدوية عديدة رسمت خارطة فلسطين، والعلم، والقدس، وقلائد ومعلقات، وفي "آخر أيامها صنعت، عقودًا للأطفال من ابناء أخوتها" وكانت هذه آخر ذكرى لها معهم.
المصدر / فلسطين أون لاين