أخبار اليوم - "أين غزل.. أين ميس؟ اشتقت لهما كثيرًا." سأل محمد أبو جليلة بصوت متعب ظانًا أن بنتيه نائمتان أو ذهبتا للعب قليلًا. ران صمت تام في الخيمة التي يقيم فيها ما تبقى من أفراد عائلته؛ زوجته نهيل واثنين من أبنائها، قبل أن تنهار باكية أمامه، وتشير إلى السماء. على الفور فهم أنهما قد استشهدتا.
سقط أبو جليلة أرضًا دون صوت، لم يصرخ بل غرق في صمتٍ عميق يشبه الموت. فالشاب البالغ (36 عامًا) عائدًا للتو من رحلة قهر وتعذيب داخل سجون الاحتلال ليفجع بارتقاء بنتيه في قصف إسرائيلي.
إبَّان حرب الإبادة الإسرائيلية حيث تنهمر الغارات الجوية والقذائف المدفعية، عاش أبو جليلة جرائم القتل والتدمير بكل تفاصيلها المؤلمة. دمر جيش الاحتلال منزله، واعتقله، وقتل أفراد عائلته.
كان هناك منزل!
بين أزقة مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة، كان له منزل هناك. لم تكن العائلة تعيش حياة مترفة لكنها كانت كافية أن تجعلهم سعداء. يخرج أبو جليلة صباحًا إلى عمله في مستشفى كمال عدوان، ويعود مساءً بابتسامة الرضا على وجهه.
لكن مع الحرب التي بدأها جيش الاحتلال في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تغير كل شيء. "كانت حياتنا هادئة. عشنا أيامًا حلوة لا يمكن نسيانها." قال أبو جليلة لـ"فلسطين"، "الحرب دمرت كل شيء جميل بالنسبة لعائلتي، ولم ترحم أطفالي."
أبو جليلة، الذي تهيمن عليه ملامح القهر، خاض قسرًا تجربة من أسوأ التجارب بحياته كلها. في هجوم بري إسرائيلي عنيف استهدف مستشفى كمال عدوان نهاية 2024، تعرض للاعتقال على يد قوات جيش الاحتلال.
"قيدوني وأجبروني على خلع ملابسي قبل أن ينقلوني إلى جهة مجهولة. عرفت لاحقًا أنني داخل معتقل (سدية تيمان). هناك رأيت ألوان العذاب." قال أبو جليلة وقد ذهبت نظراته إلى معصميه، حيث كان يقضي غالبية وقته مقيدًا داخل أسوأ المعتقلات سمعة في العصر الحديث.
فقدان الأمان
قبل اعتقاله، كانت نهيل زوجة أبو جليلة وأطفالها الأربعة، غزل (12 عامًا)، إسلام (10 أعوام)، ميس (6 أعوام)، يوسف (3 أعوام)، أجبروا على النزوح من مخيم جباليا بعد اشتداد وطأة الهجوم العسكري الذي بدأه جيش الاحتلال على محافظة شمال قطاع غزة، مطلع أكتوبر 2024، واستمر أزيَّد من 100 يوم.
كانت نهيل (35 عامًا) تعتقد أنها صارت في ملاذٍ آمن تحت سقف منزل لأحد الأقارب في حي الرمال الشمالي بمدينة غزة، اكتظ بعدد كبير من المدنيين النازحين بينهم عشرات الأطفال والنساء. بينما كانت تحيط بأطفالها وتحتضنهم، كان قلبها معلق بزوجها المحاصر في شمالي القطاع.
لم تمضِ سوى بضعة أيام، حتى وقعت الكارثة. في غارة ليلية استهدفت المنزل المكون من طابقين يوم 15 يناير/ كانون الثاني 2025، قتل جيش الاحتلال 30 فردًا من العائلة، من بينهن الشقيقتيْن غزل وميس.
"كنا نائمين، وفجأة انقضت علينا القنابل. ثلاث انفجارات متتالية دمرت كل شيء." قالت الأم المكلومة وهي تلوح بيديها محاولة وصف المذبحة الإسرائيلية.
"وجدت نفسي ملقاة في الشارع وفوقي أكوام من الركام. نظرت من حولي فلم أرى سوى الدخان والرماد."
بعد وقت قصير، نقلها المسعفون إلى المستشفى مع الناجين من الغارة الإسرائيلية العنيفة، ومعها ابنيها إسلام، الذي أصيب بنزيف في الدماغ والأمعاء، ويوسف أيضًا وقد أصيب بجروح متفاوتة. أما بنتيها فقد بقيتا تحت الركام حتى استطاعت فرق الدفاع المدني انتشالهما لاحقًا.
بينما عاشت الأم هذه التفاصيل المؤلمة، كانت معاناة زوجها أكبر بكثير، فهو علاوة على التعذيب الذي لاقاه في "سدية تيمان" لم يكن يعلم أن بنيته استشهدتا في قصف إسرائيلي بعد 20 يومًا من اعتقاله.
عذاب السجون
قضى أبو جليلة قرابة الشهرين في الأسر غالبيتها في "سدية تيمان" قبل أن ينقل إلى سجن النقب الصحراوي، وأفرج عنه يوم 27 فبراير/ شباط 2025، لكن مرَّ بموقف لن ينساه طيلة حياته. قبل خروجه بساعات استدعاه ضابط مخابرات الاحتلال للتحقيق، وبينما أصدر العديد من التهديدات ضده، سأله هل تعرف أخبار عائلتك؟ رد عليه أبو جليلة، لا طبعًا. كيف سأعلم وأنا في السجن؟، سأله مجددًا بنبرة خبث طلَّت من كلماته: هل أنت متأكد؟ عندها شعر أبو جليلة أن شيئًا ما حدث دون علمه.
خطى الشاب بعد خروجه من السجن بقدميه المثقلتين نحو غزة بعد غياب قسري رأى خلاله الموت، لكن هذه الحرية لم تكن تعنى له شيء بقدر ما يريد معرفة مصير عائلته، حيث سارع إلى المنزل الذي أوت إليه زوجته وأطفاله، فوجده مقصوف ومدمر، فبحث عنهم وعثر عليهم تحت ظل خيمة لا تقيهم حر النهار، ولا برد الليل.
عند لحظة اللقاء الأولى، لم تتمالك نهيل أعصابها، وألقت بنفسها على صدر زوجها، باكية حد الانهيار. لكن أبو جليلة، ظل واقفًا يحدق فيمن حوله من هول الصدمة عندما أخبروه أن غزل وميس، استشهدتا في القصف الإسرائيلي. كان من بين ضحايا المذبحة أيضًا والدته وشقيقه وزوجته وابنيها، أحدهم مولود يبلغ عمره 6 شهور.
تقول نهيل عن زوجها: إنه "لم يعد كما كان، لا ينام إلا قليلاً، لا يأكل إلا ما يسد رمقه، ويقضي معظم وقته في النظر إلى صور قديمة."
وبينما يحدق في الصور وقت طويل، يحدث زوجته عن الأيام الجميلة التي قضوها معًا، ولسان حاله يقول: "عدت من السجن لأحضنهم.. فحضنت الذكريات."
فلسطين أون لاين