ما بعد القصف .. أمّ تبحث عن الحليب في مدينة يلتهمها الجوع

mainThumb
ما بعد القصف.. أمّ تبحث عن الحليب في مدينة يلتهمها الجوع

31-05-2025 10:41 AM

printIcon

أخبار اليوم - على طرف شريط الألم في مركز إيواء غرب مدينة غزة، تتكئ وفاء أبو حبل على قطعة إسفنج مهترئة تحت سقف خيمة. لا جدران تحميها، ولا نوافذ تفتح لها على الحياة. كل ما يحيط بها هو الغياب، والجوع، والدموع، وأطفال ينامون على الأرض الباردة ببطون خاوية.

وفاء ليست مجرد رقم جديد في عدّاد النازحين، إنها قصة كاملة من الوجع، عنوانها: أمٌّ بلا معيل، وزوجة شهيد، وأرملة تصارع الموت وحدها لتُبقي أبناءها على قيد الحياة.

في جباليا بدأت الحكاية. في بيت بسيط كان يسكنه الحب رغم ضيق الحال، عاشت وفاء وزوجها فادي أبو حبل مع أطفالهما الستة. كانت الحياة صعبة، لكنها - على الأقل - مستقرة. حتى جاء ذلك اليوم الذي انقلب فيه كل شيء: اجتياح، قصف، صراخ، وغياب لا عودة منه.

استُشهد فادي. رحل وهو يحاول تأمين لقمة العيش لعائلته، تاركًا خلفه ولدًا وخمس بنات، أصغرهن لم تُكمل عامًا ونصفًا من عمرها.

تقول وفاء بصوت خافت يكاد ينهار لـ "فلسطين أون لاين": "استُشهد فادي، وراح البيت. كل شيء راح. صرت لحالي مع أولادي، مش عارفة شو أعمل. خمس مرات نزحنا، أصعبها كانت أيام مستشفى كمال عدوان، كل يوم كنا نركض من الموت، بس هو دايمًا يسبقنا".

في الاجتياح الأخير لجباليا، لم تجد وفاء خيارًا سوى الهروب مجددًا، وهذه المرة إلى غرب غزة. لكن الأمان الذي بحثت عنه هناك كان سرابًا آخر. هي اليوم تعيش مع أطفالها داخل خيمة في مركز إيواء، لا تصلح حتى لإيواء الريح، فكيف بأمٍّ ترعى ستة أرواح صغيرة؟

"ما في شي. لا أكل، لا مي، لا كهربا، لا دواء. بنتي الصغيرة خُلقت بالحرب، ما ذاقت الحليب مثل باقي الأطفال. الحفاضات أسعارها صارت مستحيلة".

تتحدث وفاء والدمعة لا تفارق عينيها، لكنها لا تبكي، فقد جفّت الدموع من كثرة البكاء.

في ظل المجاعة التي تضرب غزة من أقصاها إلى أقصاها، لا تجد وفاء ما تطعم به أطفالها.

"الصغار بيبكوا طول الليل. جوعانين. بيدوروا على رغيف خبز ما في. مرات بننام على المي، ومرات بلا شي. وكل يوم بسأل حالي: لو فادي عايش، كان رضي يشوف ولاده هيك؟"

سؤال لا إجابة له، سوى حسرة متجددة على رجل غاب وبيت تهدّم فوق أحلام أطفاله.

تنظر وفاء إلى الخيمة التي تسكنها وتقول: "والله لو تيجوا تشوفوا الخيمة. الشمس بتكويها، والبرد بيخرقها. لا فيها باب، ولا ستر. كل شي باين، والليل رعب. بخاف على بناتي من الهوى، ومن الجوع، ومن الناس".

الطفلات يلعبن أمام الخيمة، أو يتظاهرن باللعب. لا دُمى، لا ألوان، فقط حجارة وقطع بلاستيكية عثرن عليها في الركام. وحين يحلّ الليل، يتكدسن فوق بعضهن لينمن، علّ الدفء في الأجساد يعوّض عن فقدان الأغطية.

"أنا مش طالبة بيت، ولا فلوس، بس بدي شي بسيط أقدر أعيش فيه بأمان، أطعم بناتي، أحميهم، أعالج بنتي الصغيرة. بدي بس رحمة".

هكذا تختصر وفاء حاجتها، مناشدة من تسميهم "أهل الخير"، من كل مكان، أن يلتفتوا إلى خيمتها، إلى صغارها، إلى حليب لم تجده منذ شهور، وإلى حياة باتت على وشك الانطفاء.

قصة وفاء أبو حبل ليست استثناءً في غزة اليوم، لكنها نموذج يصرخ بما تعانيه آلاف الأرامل اللواتي فقدن الأزواج والمنازل، وبقين وحدهن في مواجهة القهر، والمجاعة، والموت البطيء.

في قلب خيمتها، تعيش وفاء بين ذكريات رجلٍ استُشهد، وصغارٍ لا يملكون سوى عيونهم ليفهموا العالم من خلالها.

"أكتر شي بيحرقني، إني مش قادرة أفرّحهم. ولا حتى في يوم العيد، اللي قرّب مرة تانية، ما عرفنا شو يعني عيد. لا لبس، لا حلوى، لا حتى ضحكة".

ثم تهمس وكأنها تُصلّي: "الله يرحمك يا فادي. كنت السند، كنت الأمان".

 فلسطين أون لاين