أخبار اليوم - تغيب أصوات الأجهزة الطبية شيئًا فشيئًا عن أقسام الغسيل الكلوي في مستشفيات قطاع غزة في زمن الحرب الممتدة للشهر العشرين على التوالي، في حين تعلو آهات مرضى الفشل الكلوي مع اشتداد معاناتهم وعدم توافر جلسات غسيل كافية لتنقية أجسادهم.
"أشعر أن الدم في عروقي يتسمم"، قال المسن محمد العريني، الذي يعاني فشلًا كلويًا منذ أربع سنوات: "كنت أغسل الكلى ثلاث مرات أسبوعيًا لمدة أربع ساعات لكل جلسة، الآن يكتفي الأطباء بمنحي جلستين أسبوعيًا لمدة ثلاث ساعات فقط. كل عجز أو تأخير في جلسات الغسيل يهدد حياتي."
في قطاع غزة، الذي يتعرض لحرب إبادة دموية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تسلم المنظومة الصحية من بطش الاحتلال، إذ تعمّد جيشه تدميرها بشكل منظّم باستهدافها بالغارات الجوية، والاجتياحات البرية، ومنع وصول المعدات والأدوية والمستهلكات الطبية.
وترك هذا تداعيات خطيرة على الأوضاع الصحية للمرضى، لا سيّما الفئة التي تعاني الفشل الكلوي، في وقت شددت فيه (إسرائيل) حصارها ومنعت وصول الغذاء، ما سبّب سوء تغذية كبيرًا وانتشارًا للسموم في أجسادهم.
آهات المرضى
يرقد العريني، البالغ من العمر 74 عامًا، بجسد نحيل شاحب على سرير الغسيل داخل قسم الكلى في مجمع الشفاء الطبي. عيناه الغائرتان ويداه المتصلبتان الموصولتان بجهاز الغسيل الكلوي تحكيان مأساة إنسان يتحمل عناءً شديدًا.
يضيف لـ "فلسطين أون لاين": "التأخير عن جلسة الغسيل بالنسبة لي غير مسموح، لأني قد أفقد حياتي. إنها ليست مجرد جلسة لسحب السموم من جسدي، بل إنها فرصة أخرى للحياة."
يرافق وجدي العريني والده في جلسات الغسيل. ويفيد بأنه إبان الحرب اضطر للنزوح مع والده إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعد اقتحام جيش الاحتلال مجمع الشفاء وتدميره بالكامل في مارس/ آذار 2024، وذلك من أجل حصول والده على جلسات الغسيل في مستشفى شهداء الأقصى، والمستشفى الميداني التابع لمنظمة أطباء بلا حدود.
في الكرسي المجاور، كانت نازك الحويطي ترقد على سرير طبي، مقيدة بالأنابيب الطبية لإجراء جلسة غسيل بدأت قبل ساعة، وأمامها ساعتان على الأقل لتنتهي. وجهها الشاحب ونظراتها المثقلة دليل كافٍ على حجم الإرهاق الذي تسببه عملية الغسيل لجسدها المنهك المصاب بالفشل الكلوي منذ ست سنوات.
الحويطي، (47 عامًا)، لا تأتي وحدها إلى جلسة الغسيل، إذ يرافقها زوجها قادمين من مدرسة يافا في حي التفاح، والتي تحوّلت إلى مركز لإيواء نازحي الحرب، ويقيما فيها مع ابنيهما وبنتيهما منذ أن دمّر جيش الاحتلال منزل العائلة في منطقة الشعف بحي الشجاعية، شرقي مدينة غزة.
"كادت أن تفقد حياتها خلال الحرب بسبب انقطاعها عن جلسات الغسيل لأسابيع قليلة"، قال حسام الحويطي، زوج نازك، وهو يمسك بيدها محاولًا التخفيف عنها: "لم نعد نحصل إلا على جلستين فقط، لمدة ثلاث ساعات لكل جلسة، صحيح أنها ليست كافية، لكنها أفضل من الانقطاع."
يضيف: "تنقلت بها بين عدة مستشفيات في قطاع غزة بسبب استهداف الاحتلال المنظومة الصحية، ومداهمته العديد من المستشفيات خلال الحرب. واجهت زوجتي ظروفًا صعبة بسبب الحرب والنزوح."
حتى مع عودتهما من جنوبي القطاع إلى شماله في يناير/ كانون الثاني 2025، لم تنته معاناة هذه السيدة وزوجها، إذ صار الوصول إلى مستشفى الشفاء من حي التفاح شرقًا مهمةً صعبة تتطلب التضحية بالجهد والمال.
تضيف نازك بصوت متقطع بعد تنهيدة طويلة: "ننتظر ساعات حتى نجد وسيلة نقل. نجبر أحيانًا على ركوب عربات تجرّها الحيوانات تستغرق وقتًا طويلًا للوصول إلى مجمع الشفاء. لم تعد وسيلة المواصلات مهمة بالنسبة لي ولا تكلفتها، المهم هو الوصول في الموعد المحدد لجلسة الغسيل. فكل تأخير أدفع ثمنه من صحتي وحياتي."
أما عن حالتها الصحية، فيؤكد زوجها أنها في تراجع مستمر، تزامنًا مع نقصان واضح في وزنها من 94 إلى 68 كيلوجرامًا، بفعل سوء التغذية، وعدم توفر الغذاء الصحي المناسب لمريضة فشل كلوي.
في الجهة الأخرى من غرفة الغسيل، ترقد معزوزة الخطيب (66 عامًا) بجسد منهك على كرسي طبي مجاور لجهاز غسيل الكلى. تأتي الخطيب من حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة إلى مجمع الشفاء غربًا ثلاث مرات أسبوعيًا للانتظام في جلسات الغسيل الكلوي، بقرار من الأطباء بسبب سوء حالتها الصحية. عيناها الخضراوان الغائرتان في وجهها الشاحب معلقتان بابنها محمد الذي يرافقها في كل جلسة، ويحرص على البقاء بجوارها بعد تفاقم حالتها بسبب الحرب، وعدم انتظامها في الجلسات، وسوء التغذية الناتج عن الحصار الإسرائيلي.
وكانت هذه المسنّة قد عاشت معاناة الحرب بكل تفاصيلها المؤلمة: بين الدمار والعتمة والنزوح المستمر، وعدم القدرة على الوصول إلى المستشفيات بسبب الغارات، وإغلاق الطرق بركام المنازل المدمرة، تحاول الخطيب الحفاظ على ما تبقى من حياتها.
"لكن عدم توفر الغذاء المناسب يصيب جسدها الضعيف بأضرار كبيرة"، يقول ابنها محمد. "لا تتوفر مأكولات مناسبة في الأسواق، والخضراوات مرتفعة الثمن لا يمكننا شراؤها، وتناولها المعلبات يضرها كثيرًا ويزيد السموم في جسدها."
عندما تنتهي جلسة الغسيل، تسارع الخطيب إلى منزلها، تجلس أمام نافذة مكسورة، تتأمل في صمت مدينة غزة المنكوبة، وتقول: "لا أعرف كم يومًا تبقّى لي، لكن أريد فقط أن أعيش كإنسانة، أتنفس وأغسل دمي من السموم."
معيقات ومخاطر
داخل غرفة الغسيل ذاتها في مجمع الشفاء، كان الحكيم نعمان نصر الله يراقب مرضى الفشل الكلوي باهتمام شديد وصمت ثقيل، يحاول بكل قوته أن يحافظ على ما تبقى من إنسانيته وهو يشاهد مرضاه يتساقطون واحدًا تلو الآخر.
"نواجه مشاكل كبيرة تتمثل بصعوبة وصول مرضى الفشل الكلوي إلى قسم الغسيل. بعضهم لا يأتي إلا لجلسة أو اثنتين أسبوعيًا مع أن ظروفه الصحية تتطلب ثلاث جلسات أسبوعيًا"، قال نصر الله لـ"فلسطين أون لاين"، مشيرًا إلى أن القسم لا يستطيع توفير أكثر من جلستين أسبوعيًا لغالبية المرضى.
ومن أبرز المعيقات التي يواجهها قسم الغسيل، تدمير منظومة توفير المياه النقية، إذ أصبح القسم يعتمد على شاحنات المياه الحلوة من خارج مجمع الشفاء بعدما كانت لديه محطة تحلية خاصة تعمل بنظام إلكتروني كامل، يخدم المرضى والأجهزة الطبية، لكن هذه المحطة دمرها جيش الاحتلال في عدوانه على المجمع عام 2024.
علاوة على ذلك، فإن عدم توفر الغذاء المناسب يضر كثيرًا بفئة مرضى الفشل الكلوي ويهدد حياتهم، بحسب نصر الله.
وأشار إلى أن قسم الكلى في مجمع الشفاء يخدم حاليًا 216 مريضًا من أصل أكثر من 650 مريضًا في قطاع غزة، يعانون ظروفًا صحية مأساوية وصعوبة في الحصول على جلسة الغسيل، بسبب تدمير المنظومة الصحية وخروج غالبية المستشفيات عن الخدمة، وآخرها: الإندونيسي، العودة، وكمال عدوان، شمالي القطاع.
في زمن الحرب، صار البقاء على قيد الحياة بالنسبة لمرضى الفشل الكلوي معركة تخوضها الأجساد المتعبة وحدها، في ظل صمت لا يسمع صداه في ضمير العالم.
فلسطين أون لاين