د. هديل محمد القدسي
حين تهدأ أصوات المدافع، ويتراجع دوي الصواريخ، يبدأ الزمن الحقيقي للمراجعة. فالحرب، بكل ما حملته من دمار ورسائل نارية، لا تنتهي بانقطاع النيران، بل تبدأ حساباتها الدقيقة في لحظة الصمت. وفي هذه اللحظة، لا يلوح في الأفق انتصار كامل يحتفل به طرف، ولا هزيمة ساحقة يعلنها آخر، بل تتبدى صورة مشهد معقد، تتداخل فيه المكاسب بالخسائر، وتتشابك فيه المعادلات الاستراتيجية الجديدة بخطوط النار القديمة.
وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران جاء ليُجمّد جولة كانت من أخطر وأعقد جولات الصراع في تاريخ المنطقة، لكنه لم يُنهِ الحرب، بل كشف عن تحوّل عميق في طبيعة المواجهة بين الجانبين. النتيجة الأبرز لم تكن في عدد الضربات أو حجم الدمار، بل في المشهد الاستراتيجي الذي انبثق من تحت رماد المعارك: لا منتصر حاسم، ولا مهزوم مذلول، بل صراع مفتوح يعيد رسم خطوط التماس ومعادلات الردع، ويؤسس لجولات أخرى قد تكون أشد شراسة وأكثر تعقيداً
إسرائيل، التي بدأت الحرب وهي ترفع سقف الأهداف إلى أقصى مدى، دخلت المعركة معلنة نيتها تقويض البرنامج النووي الإيراني وتغيير قواعد اللعبة الإقليمية وربما إضعاف النظام الإيراني نفسه. لكنها، مع نهاية الجولة، وجدت نفسها أمام واقع مغاير: لم يُمسّ البرنامج النووي الإيراني بشكل جوهري، ولم تنجح ضرباتها النوعية في زعزعة النظام الإيراني، بل ربما أسهمت في تعزيز تماسكه الداخلي بعدما اصطف حتى خصومه خلفه في وجه التهديد الخارجي. الحرب بدلاً من أن تشق الصف الإيراني، جمّعت أطرافه، وأحبطت رهانات كثيرين على تصدعات داخلية أو انهيارات سريعة.
أما إيران، فقد قلبت الطاولة على خصمها، وأثبتت أنها لم تعد مضطرة إلى إدارة المعارك عبر الوكلاء أو من وراء ستار. اذ وجّهت طهران ضربات صاروخية مباشرة إلى العمق الإسرائيلي، ضربات لم تكن رمزية أو للاستهلاك الإعلامي، بل كشفت عجز منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية مهما بلغت من تطور. مع كل رشقة صاروخية، كانت إسرائيل تُدفع إلى تشغيل منظوماتها الدفاعية الباهظة الثمن ضد صواريخ هجومية زهيدة الكلفة. معادلة الاستنزاف المالي كانت واضحة: كل صاروخ إيراني أو من حلفائها بكلفة عشرات الآلاف من الدولارات فقط، يقابله صاروخ اعتراض إسرائيلي يتجاوز ثمنه أضعافاً مضاعفة. ومع تراكم الضربات، لم تكن الخسارة مالية فقط، بل معنوية واستراتيجية. مدن إسرائيلية كانت حتى الأمس القريب تشعر بالأمان باتت ضمن دائرة النار، ومنشآت حيوية واستراتيجية أصيبت بشكل مباشر، ما هزّ صورة “المناعة المطلقة” التي حاولت إسرائيل ترسيخها لعقود.
هذا التغير في معادلة الردع لم يكن مجرّد انتصار تكتيكي لإيران، بل كان رسالة مدروسة مفادها أن ما جرى حتى الآن لا يمثل إلا جزءاً محدوداً من القدرات الفعلية. التصريحات الإيرانية لم تترك مجالاً للشك: لم يُستخدم في هذه الحرب سوى أقل من ثلث القدرة الصاروخية، ولم يُستدعَ حتى الآن دور القوة البحرية أو أوراق مثل إغلاق مضيق هرمز أو استهداف المصالح الغربية في المنطقة. أي أن لدى طهران مخزوناً هائلاً من المفاجآت، ما يعني أن جولات قادمة قد تكون أكثر شدة وتعقيداً.
في المقابل، بدت الساحة الداخلية الإسرائيلية غارقة في الارتباك على نحو لم يكن متوقعاً. فعوضاً عن أن يسود شعور بالامتنان للقيادة السياسية، كما توقع كثير من المحللين السياسيين الذين اعتبروا أن الضربة الإسرائيلية ستُقابل بارتياح داخلي بوصفها خطوة استباقية لحماية أمن اسرائيل الوجودي من الخطر النووي الإيراني، سيطر على المجتمع الإسرائيلي قلق عميق وخوف متزايد من اتساع رقعة الحرب وتحوّلها إلى مواجهة شاملة لا يمكن التنبؤ بعواقبها. هذا القلق بدأ يترجم إلى اهتزاز ثقة، وإلى حديث عن احتمالات هجرة، ليس بالضرورة بأعداد كبيرة، لكن بما يكفي ليكشف هشاشة الرابط بين المجتمع الإسرائيلي والأرض التي يعيش عليها، مجتمع تشكّل على أساس الأمن والرفاهية، لا على الارتباط العضوي بالأرض كما هو الحال لدى الفلسطينيين.
الاقتصاد الإسرائيلي، الذي كان يعتبر نقطة قوة، دخل بدوره في مسار استنزاف طويل. تكاليف تشغيل المنظومات الدفاعية، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، والمخاوف من تأثير الهجمات على الاستثمارات، كلها عناصر بدأت ترسم ملامح أزمة اقتصادية قد لا تظهر نتائجها الكاملة إلا على المدى المتوسط. صحيح أن إسرائيل قادرة على التعافي بفضل الدعم الغربي السخي، لكن هذا التعافي لن يكون بلا ثمن داخلي أو خارجي.
المشهد إذن لا يُختصر بانتصار طرف على آخر، بل بإعادة رسم قواعد الاشتباك. وقف إطلاق النار لم يأتِ نتيجة تحقيق الأهداف، بل كان محطة لالتقاط الأنفاس وإعادة التمركز. الأسباب الجوهرية التي فجرت الحرب ما زالت قائمة: البرنامج النووي الإيراني، دور طهران الإقليمي، وحسابات الردع بين الجانبين. والنتيجة أن احتمال تجدّد الحرب قائم وبقوة، خاصة في ظل قيادة إسرائيلية مثل نتنياهو، ترى في القوة العسكرية الطريق الوحيد لحل الأزمات.
في ضوء كل ذلك، تبدو المفاوضات النووية فرصة نادرة لتوظيف نتائج هذه الجولة عسكرياً وسياسياً. عودة الضغط الأميركي، ربما بقيادة ترامب أو من يسير على نهجه، قد تفتح باباً أمام إيران لاستثمار ما حققته ميدانياً في مسار دبلوماسي يخفف عنها الضغوط ويمنع الانزلاق إلى حرب أكبر وأكثر خطورة. غير أن إضاعة هذه الفرصة، عبر المماطلة أو الإفراط في التعويل على أوراق القوة وحدها، قد يعيد المنطقة إلى مربع المواجهة ويمنح إسرائيل فرصة للضغط من موقع أقوى، خاصة إذا نجحت في تعبئة الغرب بشكل أوسع ضد طهران.
هكذا، يتضح أن ما جرى كان أكثر من حرب محدودة، وأقل من مواجهة شاملة. إنه صراع استنزاف مفتوح يعيد تعريف ميزان القوى في المنطقة، ويرسم معادلات جديدة للردع، لكنه في الوقت ذاته يترك الأبواب مشرعة أمام جولات قادمة ربما تكون أعنف وأكثر تعقيداً، ما لم تنجح الأطراف في تحويل هذا التوازن الهش إلى فرصة حقيقية للحوار السياسي والحلول المستدامة.