أخبار اليوم - سهم محمد العبادي
هل تتحرك الدول فعلًا وفق عقيدة ومواقف مبدئية، أم أن المصلحة الوطنية، لا غيرها، هي التي تقرر التوجهات والمواقف وحتى نوع المعركة وحدودها؟
سؤال بات يُطرح بحدة في الأوساط السياسية والإعلامية العربية، بعد أن بدت طهران، التي لطالما رفعت لواء القضية الفلسطينية، تضع غزة خارج شروط تفاهماتها لوقف إطلاق النار مع إسرائيل.
لم تطلب إيران صراحة – لا عبر وساطات ولا عبر بيانات – وقف العدوان الإسرائيلي على غزة كشرط مسبق أو حتى لاحق لوقف إطلاق النار.
جاء الهجوم الإيراني ردًا على قصف قنصليتها في دمشق.
وجاء التفاوض على التهدئة وفق معادلة إقليمية واضحة: الرد مقابل الرد، والحساب مغلق عند حدود أمنها السيادي.
أما غزة – التي تُذبح منذ أكثر من 650 يومًا – فبقيت خارج نص البيان، وخارج خريطة الاشتراطات السياسية.
هنا لا نُقلّل من رمزية الموقف الإيراني في دعم فصائل المقاومة، لكننا نسأل بوضوح:
لماذا لم تكن غزة جزءًا من شروط المعادلة؟ ولماذا فُصلت العقيدة عن المعادلة السياسية بهذه السرعة؟
في لحظات كهذه، تبدو الشعارات السياسية المرفوعة باسم فلسطين مجرد غطاءٍ تكتيكي، لا استراتيجية ثابتة.
تتقدم حين تتقاطع مع المصلحة، وتختفي حين تتقاطع معها.
وقد يقال: لا تُحمّلوا إيران ما لم تقله. وهي حجة منطقية.
لكن في المقابل، لماذا يصطف البعض خلف طهران وكأنها تقاتل لأجل فلسطين، ويُخوِّنون كل من يُشير إلى غياب غزة عن الطاولة؟
من روّج لفكرة أن الحرب الأخيرة كانت من أجل الأقصى؟ من قال إن تل أبيب ضُربت لأجل أطفال غزة؟
إيران لم تقل هذا، من قاله هو الشارع العربي، والمتحمسون، والمشبعون بثقافة الشعارات.
هل السياسة بهذا الشكل تُختطف من الواقع ويتم تأليهها؟ هل الدول تقاتل لأجل خطاب الآخرين لا مصالحها؟
إيران دولة إقليمية كبيرة، تُفكر بعقل الدولة، لا بعاطفة الجمهور.
وكذلك تركيا، ومثلها قطر، والسعودية، ومصر.
كلها دول تتحرك وفق مصالحها، وهذا ليس عيبًا، لكنه يصبح خطيئة عندما يُلبس خطاب المصالح عباءة المقدّس.
الواقع أن التحالفات السياسية ليست عقائد ولا أديان، بل صفقات مصالح، وقد يتفق فيها من ظننا أنهم لا يلتقون، وقد يتخاصم فيها من حسبناهم أشقاء في الهدف والنهج.
وما بين طهران وغزة، ودمشق وبيروت، وتل أبيب والدوحة، وواشنطن وموسكو، لا ثوابت إلا مبدأ واحد:
أين تكمن مصلحتي؟
الخطير هنا ليس في براغماتية الدول، فهذا شأنها، بل في تحويل تلك البراغماتية إلى خطاب تعبوي، يُفرض على الشعوب وكأنه ولاء وطني أو التزام ديني.
إن إعادة تعريف العلاقة مع القضايا الكبرى لا يكون بالتصفيق لمجرد التصعيد، بل بفهم المنطق الذي يحرك الأحداث، وبالإصرار على التمييز بين من يستخدم فلسطين خطابًا، ومن يتعامل معها التزامًا.
ولعل أهم ما يجب أن نبدأ به هو هذه المصالحة مع حقيقة أن السياسة لا تُدار بالشعارات، بل بالمصالح، وأنه لا يُطلب من أي دولة أن تكون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين، لكن لا يُقبل منها أيضًا أن تتخذ من فلسطين قميصًا لتبرير كل سياسة.
وفي خضم هذا المشهد المربك، يبرز الموقف الأردني كحالة استثنائية في منطق المواقف والسياسة.
لم يبع الأردن الوهم يوماً، ولم يتاجر بالشعارات، ولم يتحدث فوق ما يستطيع أن يفعل.
موقفه من القضية الفلسطينية واضحٌ وثابت منذ عقود، لا يتبدل بتبدل الخرائط، ولا يتلوّن بتغير الحلفاء.
ظلّ الأردن يدافع عن القدس والمقدسات، لا من باب التجييش أو الاستثمار السياسي، بل من صميم مسؤولية تاريخية ودينية ووطنية.
ولعلّ ثبات الموقف الأردني ووضوحه هو ما يجعله مستهدفًا في كثير من الأحيان إعلاميًا وسياسيًا، لأنه ببساطة لا يخضع لمنطق الابتزاز ولا يُساوم على مبادئه.
وفي زمن التحولات، يبقى هذا الثبات قيمة نادرة... وثمنًا يدفعه الأردن بصبرٍ وهدوء، لكنه في النهاية، يخرج دائمًا من كل عاصفة مرفوع الرأس، واضح البوصلة.