دور التلفزيون الأردني في الحالة الثقافية الأردنية

mainThumb
الإعلامي د. عامر الصمادي باحث متخصص بالتلفزيون والإعلام الرقمي

29-06-2025 08:13 PM

printIcon


المقدمة
بقلم الإعلامي د. عامر الصمادي
باحث متخصص بالتلفزيون والإعلام الرقمي

يُعد التلفزيون أحد أهم الوسائل الإعلامية المؤثرة في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي عن الشعوب والمجتمعات المحلية، حيث يلعب دورًا محوريًا في نشر القيم وتعزيز الهوية وتقديم المحتوى الإبداعي. وفي الأردن، مثَّل التلفزيون الأردني منذ تأسيسه عام 1968 مرآةً للثقافة الوطنية، لكنه شهد تحولات كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب التطور التكنولوجي وتغير أنماط المشاهدة. فكيف أثَّر التلفزيون الأردني على الثقافة المحلية؟ وما هي سُبل تطويره لمواكبة العصر؟

أولًا: التلفزيون الأردني والثقافة (2000-1990)
في تسعينيات القرن الماضي، كان التلفزيون الأردني المصدر الرئيسي للمعلومات والترفيه، حيث قدَّم برامج تُعنى بالثقافة الأردنية والعربية، مثل:

البرامج التاريخية والوثائقية التي سلطت الضوء على التراث الأردني.

المسلسلات الدرامية التي صورت الحياة الاجتماعية الأردنية.

البرامج الثقافية والأدبية التي استضافت شعراء وكتابًا أردنيين وعربًا، بعضهم كان من الصعب جدًا الوصول إليه لاعتبارات جغرافية أو سياسية، لكن التلفزيون كان أفضل وسيلة للوصول إليهم وتقريبهم للمشاهد.

وأذكر هنا أنني بدأت العمل التلفزيوني بتقديم برنامج المجلة الثقافية، وهو أهم برنامج ثقافي بالتلفزيون يومها، فكان له صدى كبير وتأثير واضح على الحياة الثقافية الأردنية، وكنت أُغطي كل الأنشطة الثقافية في عمان وأحيانًا في المحافظات. وكانت هذه الأنشطة تتضاعف عشرات المرات في فترة انعقاد مهرجان جرش، الذي كان يستقطب كبار الشعراء والمثقفين العرب، حتى إنني ابتدعت طريقة جديدة للتعامل مع هذا الزخم، فكنت أسجل عشرات اللقاءات والقصائد الشعرية للمثقفين العرب وأبثها طوال العام، مما كان يُغني برنامجي الثقافي.

وبعد الحرب الأولى على العراق عام 1990، نزح إلى الأردن عدد كبير جدًا من المثقفين والفنانين العراقيين الذين أثروا المشهد الثقافي والفني الأردني بمختلف أشكاله، فكنت تجد عشرات الأنشطة المتنوعة يوميًا، حتى إننا لم نكن قادرين على تغطيتها كلها. بل إن مقاهي وملتقيات ثقافية أُقيمت لهم تحديدًا، فكنت تجد مثلًا مقهى الفينيق بشارع وصفي التل يعج يوميًا بعشرات المثقفين الأردنيين والعراقيين، أمثال عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وحميد سعيد وعلي جعفر العلاق وغيرهم، فكان ملتقى دائمًا تستطيع أن تعثر فيه على من تشاء منهم بشكل دائم.

كما كانت البرامج الثقافية وسيلة سياسية للتقريب بين الدول والحكومات من خلال استضافة الكتاب والشعراء والمثقفين. لكن أبرز مثال على هذه الحالة كان عام 1992، عندما حوصر الأردن وتمت مقاطعته من قبل دول الخليج، وتردّت الأحوال الاقتصادية والمعيشية، وتوقف الإنتاج الفني الأردني الذي كان يعتمد بشكل أساسي على سوق الخليج العربي. فكان لا بد من التحرك لكسر هذا الحاجز وإعادة الأمور إلى سابق عهدها. وأذكر هنا أنني اقترحت على إدارة التلفزيون أن أقوم بعمل مقابلات ثقافية مع بعض الشعراء والمثقفين العرب من سلطنة عُمان، نظرًا لعلاقتي السابقة معهم، أمثال الشاعر سيف الرحبي والصحفية عزيزة الحبسي وغيرهم. ولأن عُمان كانت أقل دول الخليج توترًا تجاه الأردن، وكان بها ما يزيد على خمسة آلاف معلم أردني وقتها، فقد نقلت إدارة التلفزيون طلبي هذا إلى وزارة الإعلام، ويبدو أن الفكرة وجدت استحسانًا لدى الوزير الذي طرحها على مجلس الوزراء، فجاءت الموافقة بأفضل مما توقعت، فقد تقرر أن يُشكّل وفد أردني كبير بما يزيد على ستين شخصًا يومها لإحياء الأيام الثقافية الأردنية في سلطنة عمان، وطلب مني أن أرافق الوفد وأسجل ما أريد من مقابلات وأرسل تقارير إخبارية يومية عن تلك الأنشطة الثقافية التي يقيمها الوفد، الذي ترأسه يومها معالي المرحوم الدكتور محمود السمرة رحمه الله، وهكذا كان.

وعودة إلى التلفزيون الأردني، نجد أنه واجه بعد ذلك تحديات كبيرة بسبب محدودية الإنتاج وقلة الموارد مقارنة بالقنوات الفضائية الناشئة.

ثانيًا: العقد الأول من الألفية (2000-2010).. بين التراجع والمحاولات التجديدية
مع انتشار القنوات الفضائية (كالجزيرة والـMBC وراديو وتلفزيون العرب ART)، تراجع تأثير التلفزيون الأردني، لكنه حاول مواكبة التغيير عبر:

إنتاج مسلسلات درامية تعالج قضايا اجتماعية.

برامج المنوعات والمسابقات التي جذبت الشباب.

زيادة الاهتمام بالمحتوى الديني والتربوي.

ومع ذلك، ظلَّ تأثيره الثقافي محدودًا بسبب ضعف التمويل وقلة الابتكار.

ثالثًا: العقد الثاني حتى اليوم (2010-2025).. التحديات الرقمية والبحث عن الهوية
في ظل انتشار الإنترنت ومواقع التواصل، أصبح التلفزيون التقليدي في منافسة شرسة، فهذه الوسائل تتيح لأي شخص أن يبث ما يشاء بشكل مباشر ودون معدات باستثناء الهاتف. ومع ذلك، ما زالت بعض البرامج الثقافية تُبث في محاولة للبقاء على قيد الحياة وتحدي الواقع المؤلم. لكن التحدي الأكبر يكمن في عدم مواكبة المحتوى لاهتمامات الشباب، وغياب الاستراتيجية الرقمية الفعالة.

فكيف يمكن تطوير التلفزيون الأردني ثقافيًا؟
أعتقد أنه يمكن ذلك من خلال:

إنتاج محتوى ثقافي مميز يركز على لغة العصر واستخدام التكنولوجيا الحديثة، وإثراء المشهد الثقافي العربي من خلال متابعة كل الأحداث الثقافية العربية، وإجراء مقابلات عن بعد بالوسائل الحديثة للتواصل لأنها غير مكلفة ويمكن التنقل في كل حلقة بين عدة دول. وقد سبق أن استخدمت هذا الأسلوب في برنامجي للمغتربين (برنامج يا طير) وكان ناجحًا وغير مكلف للتلفزيون.

إنتاج مسلسلات وثائقية عن التراث الأردني.

برامج حوارية مع مثقفين وشباب مبدعين من الجيل الجديد أو جيل الديجيتال، وطرح مواضيع تهمهم ويمكنهم التفاعل معها، وعدم التركيز على المواضيع التقليدية والأشخاص التقليديين.

التحول الرقمي الواضح ويمكن ذلك من خلال:

بث البرامج عبر المنصات الإلكترونية مثل YouTube لتوسيع الانتشار.

إنشاء مكتبة رقمية للأرشيف الثقافي الأردني، وهذه قضية شائكة يمكن إفراد مقالة خاصة عنها لأنها من القضايا الهامة وقد تعثرت عدة مرات وتم إيقافها لأهداف شخصية عند البعض بما يرتقي إلى قضية فساد يجب محاسبة رموزها.

الشراكات مع المؤسسات الثقافية:

التعاون مع وزارة الثقافة والجامعات لإنتاج محتوى نوعي.

تشجيع الإبداع المحلي:

دعم صُنّاع الأفلام والكتّاب الأردنيين عبر برامج مخصصة.

رغم التحديات، يظل التلفزيون الأردني قادرًا على لعب دور ثقافي ريادي إذا تم تحديثه بخطة استراتيجية تعتمد على الجودة والتفاعل مع الجمهور، وتغيير الإدارات التقليدية التي لا تتحدث لغة العصر. وبعد أن كان في الماضي ركيزة ثقافية، فإن مستقبله يعتمد على مواكبة العصر الرقمي مع الحفاظ على الهوية الوطنية، فما يُقدمه عن الشأن المحلي لن تجده بأي محطة أخرى.