أشكال من السيرة والحنين في مجموعة "قشر البرتقال" لمرام رحمون

mainThumb

06-07-2025 02:56 PM

printIcon
أخبار اليوم - مازالت السرديات القصصية والحكائية تمثل محور التواصل ما بين النفس والأحداث وبين الماضي والأشخاص وبين البناء الفكري والتغير الاجتماعي في كل المجتمعات، فمن رواية الحكواتي المتطورة مع الزمن، لقصة الزير سالم، ومنذ أن نقل «بيدبا» الواقع في كتابه كليلة ودمنة وقال ما قال جورج أوريل ما قاله على لسان الحيوانات في قصته «مزرعة الحيوانات» وصورت روايتي «بداية ونهاية» و «زقاق المدق» لنجيب محفوظ قصة الحارة الشعبية وغيرهم أصبحت القصة مصدراً من مصادر توثيق الإرث الشفوي للشعوب والمجتمعات المختلفة، حيث يلامس هذا الجانب الجوان? المخفية في المجتمعات ويوضح كثيراً من أنماط التفكير السائدة في فترة معينة ومواقع وأدوار العديد من الشخصيات التي تَظهر وتختفي والكثير من الأدوات ووسائل العيش وتاريخ المكان وتطوره، لتعتبر مصدر تاريخ موثوق يمكن الاستناد إليه في كتابة سيرة المكان والمجتمع بعناصره المختلفة. وقد كانت مجموعة » قشر البرتقال» للكاتبة مرام رحمون بنصوصها الثمانية عشر سردية شعبية واجتماعية ترسم سيرة ذاتية ومكانية ألوانها الأشخاص والمهن والأدوات وأسماء الأماكن وواقعها ممزوجة مع المشاعر في وعاء من الذكريات، بحيث تناولت الكاتبة خمسة أشكال من السيرة خلال هذه المجموعة بطريقة سردية ممتعة ووصف دقيق وتشابيه متقنة رصينة فكانت كالتالي: السيرة الثقافية والفكرية تشكل الأفكار السائدة في حقبة معينة وأساليب التعامل مع الأحداث والمعتقدات المكانية والفردية مؤشراً على ثقافة المجتمعات في تلك الفترة، فكانت قصة القرية النائية التي تَحكُم أفرادها الأفكار والمعتقدات الميتافيزيقية ظاهرةً في قصة (عين حمد) و (الألفية) و (سعيدة) و (فتحي الأخرس)، فمن عين حمد الأقوى من الآليات الثقيلة والتي «تفلق» الصخور ولا تتأتى لأي فرد إلا لمن دخلت أمه على ميت وهي حاملة به، إلى الأفعى الساكنة والشعوذات المرتبطة بالحمل والعلاج الشعبي إلى قصص الجن والرَّصَدِ وتفسير الأمور الطبية بالاستناد إلى ماو?اء الطبيعة من معتقدات مختلفة مرتبطة ببعض الأمور الخيالية والتي أصبحت لديهم من المسلمات، إذ إن هذه القصص الأربعة قد رسمت سيرة بعض الأفكار والمعتقدات التي شاعت في فترة زمنية معينة في مجتمعاتنا المحيطة. السيرة المكانية وثَّقت قصص مجموعة قشر البرتقال للكثير من الأمكنة في مدينة إربد وما حولها فكانت (حمة أبو ذابلة) مقصدا علاجياً للعديد من الأمراض، وزبدة فركوح مكانا لوجود صائد الحيَّات، وانتشار المكتبات في شارع الهاشمي، وسوق الشماشير، وسوق الحدادين، وتل إربد، وسهول ملكا المطلة على فلسطين، ومسجد الرمثا وغيرها، فكل هذه الأماكن لها تاريخ شفوي مرتبط بذكريات الأشخاص وبتطور المكان المدني والعمراني، وقد كان هذا جلياً في قصة «بوظة» وفي قصة «الأمل الدفين». السيرة المجتمعية والتغير المجتمعي حاز هذا الجانب التركيز الثاني ما بعد الأول من تركيز سير مرام رحمون الاجتماعية والشعبية والمكانية، حيث رسمت خلال قصصها مرحلة من التغيرات التي حدثت في الشمال الأردني، فسجلت مرحلة فتح قناة الغور بيد الشركات ذات الآليات الكبيرة وما رافقها من تطور زراعي وفكري، فاختفى حمد وبقيت سيارته، وكما ماتت سعيدة بالكوليرا وتحولت من تريد الحمل إلى الأطباء، وكيف كان المزارعون في شمال الأردن يجمعون الحبوب لتصديرها للشام وطبيعة بيادر الرمثا التي كستها البنايات الآن، وكذلك اختفاء بعض المهن وتطور وسائل النقل وطبيعة التجارة، والع?يد من الأقوال المتداولة والتي تعبر عن مواقف معينة كما في قصة (الأمل الدفين)، وتناولت هذه القصص تغير مفهوم الحارة القديم والجيران الذين يراقبون كل سكنات وحركات جيرانهم، وتغير وسائل الاتصال فمن «المكاتيب» إلى الرسائل النصية إلى مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وعلاقتها بتخاطر الأرواح، وتناولت بطريقة ذكية علاقة سماعات الأذن بحوادث السير ومشاعر الفقدان. وفي السيرة الاجتماعية تناولت قصص هذه المجموعة مفاهيم متعلقة بالأنثى، فمن مفهوم العنوسة وتلازمه مع مفهومين متناقضين وهما الأبراج والصفات السلوكية للفرد، ومفهوم الإنجاب والتجاذب النفسي ما بين الواقع والخيال ومفهوم مزاجية الأنثى ومشاعرها المتناقضة وعشقها للكراميل (كدلالة على البحث عن السعادة) وتعلقها بالموسيقى من مقامات وأغاني فيروز وغيرها في كل صباح، وتجلى ذلك في قصص (نحس) و (عزف منفرد) و (أروح سبعة) و (نعنع خاص) و (مُدَّخنٌ بالكراميل)، أما قصة (جدتي قمر) فهي ذات بُعد رسمت بكلماتها كل الحنين والأمومة والفقدان. السيرة المهنية في هذا الجانب وفي مواقع عديدة تناولت القاصة العديد من المهن التي كانت شائعة في فترة السبعينات والثمانينات في مجتمعنا، وقد كان بعضها على مشارف الانقراض كمطاحن الحبوب وبياع البوظة المتنقل وكذلك بعض المهن التي استمرت مع تغير شكلها أو حتى مضمونها مثل بائع العصير والفران، حيث كانت موفقة في تسجيل العديد من المهن وأصحابها وتوثيق ذلك في ذاكرةٍ مكتوبةٍ ببراعة القاص وعشق المتيم بالذكريات الجمالية التي رسمت المكان. السيرة الذاتية باعتقادي إن هذا الجانب هو الجانب الأول الذي نال اهتمام القاصة في هذه المجموعة، فكانت مجموعة من القصص المتنوعة التي ترسم سيرة ذاتية حقيقية لفتاة بَقيت مُعلقة بعمر الطفولة والفتوة ولم تخرج من عالم الذكريات المرتبط به وبكل جيلها في ذلك الوقت، فمرام رحمون رسمت بقصصها سيرتها الذاتية وسيرة كل مثيلاتها اللواتي ارتبطن بالمكان والأشخاص وتعلقن بالذكريات والحنين، فعاشت أحلام الفتاة الوردية قبل أن تلوثها الحياة ويحبطها الواقع في قصة (عزف منفرد) وإخلاص القائمة على والدتها عنايةً وبراً في قصة (نحس) وخيال الحالمة بالطفول? والجمال والنقاء والبراءة في قصة (أرواح سبعة) وعشق اليافعات للسعادة والحنين والمشاعر الجياشة في قصص (مُدخن بالكراميل)، وذاكرة الطفولة وطفولية المشاعر والأفكار في قصة (كعب عالٍ) ومشاعر الأم والفقدان والحنين للأب صاحب الفضل وصانع الشخصية، فلا غرابة في ذلك (فكل فتاة بأبيها معجبة)، كسيرة فتاة ترفض أن تخرج من عباءة الطفولة والذكريات الحالمة والنقية إلى واقع ملوث بكل ما هو كريه ومحبطٌ. سردية متقنة وتنقل موفق بين الأحداث والأشخاص، واعتناء بالتفاصيل ووصف جميل، وحكاية المكان والذات والأشخاص والمجتمع، ممزوجة بحنين الذكريات ومشاعر الجمال والذائقة الأدبية الساحرة، وكأني بها تردد قول الشاعر: خُذْنِي إلى عُمْرِ الصِّغارِ لعلَّني // إنْ ما بَكيتُ تضُمُّني الألعابُ أغْفُو فلا شيء يؤرِّقُ خاطرِي // والقلبُ صَفْوٌ إذْ خلاهُ عِتَابُ في قِطعةِ الحَلْوى نسيتُ قَضِيَّتي // أقصَى الأمَانِي مَلعبٌ وتُرابُ خُذني إلى عُمْرِ الصِّغارِ فإنَّني // لي بينهمْ مُستودعٌ ومَآبُ