غزة - أخبار اليوم - من قلب منطقة النصيرات، وسط قطاع غزة وتحديدا في منطقة الحساينة التي أصبحت أثرا بعد عين، يقف حازم البردويل (30 عاما) فوق ركام بيته الذي دفن تحت أنقاضه جميع من أحبهم، فلم يخسر مجرد الجدران، بل فقدَ في لحظة واحدة عائلته بأكملها بما في ذلك حضن أمه، وصوت أبيه، وضحكات إخوته، ودفء زوجته، وبراءة أطفاله.
وقد نجا البردويل وحيدا من بين ركام الموت، وكأن القدر أبقى جسده حيا ليذوق مرارة الفقد ويكمل الحياة بقلب مُنتزع.
وكل صباح، يستيقظ على صمت قاتل، وحزن كبير، فلم يعد هناك صوت يُوقظه، فلا بكاء للأطفال، ولا رائحة للخبز من يد زوجته، ليستيقظ على فراغ لا يسكن معدته فقط، بل يمتد إلى أعماق روحه، حيث لا شيء سوى العتمة والبرد والحنين.
من الغيبوبة إلى الفقد
في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، دمرت غارة إسرائيلية منزل البردويل المكوَّن من 3 طوابق، وأودت بحياة جميع من كان فيه، وحده نجا ليُلقى بجسده المثخن في سرير العناية المركزة، غائبا عن الوعي، قبل أن يصحو على واقع أليم.
واليوم يعيش البردويل داخل خيمة قماشية قرب أنقاض بيته، بلا ماء أو طعام أو كهرباء. ويقول للجزيرة نت بصوت يتهدج بالألم "لم يتبق لي سوى الذكريات، كنت محاطا بأطفالي وأهلي، واليوم أبحث في الركام عن صورة، عن رائحة، عن أي شيء يثبت أنهم كانوا هنا يوما ما".
ولم يعد الشاب يطلب الطعام كما يفعل الآخرون، بل جل أحلامه في عودة نكهة العائلة التي كانت تملأ حياته، حتى عندما لا يجد سوى القليل من الطعام، فالجوع لديه لم يعد فقط جوع الخبز، بل جوع الأمان والحنان، وجوع الاشتياق لأبيه وأمه وأخيه وأخته، وجوع الأحاديث اليومية مع زوجته في لحظة صفاء.
ويتحدث البردويل عن ذلك بالتأكيد بالقول "أشتاق لنكهة العائلة، لا أحد يعرف ما أحتاجه، لا يوجد من يطهو لي أو يتفقدني".
ويعتبر هذا المواطن حياته في ظل الحرب صعبة جدا بلا عائلة تعرف احتياجاته وتوفر متطلباته، ويُتابع "أصبحت أنظف خيمتي وأغسل ملابسي بنفسي، ولا أعرف كيف أطهو الطعام أو أُحضّر الخبز، تمرّ عليّ أيام عديدة دون أن أتناول الطعام، أحياناً أحاول شراء الخبز وبعض المعجنات من السوق إن توفّر معي بعض المال، وفي أحيان أخرى أحاول التأقلم مع حياة لم أعتد عليها، لكنها فُرضت عليّ".
ولا يملك البردويل طعاما يكفي، ولا دواء يخفف آلام جسده المصاب، وهو يحتاج إلى أطعمة غنية بالبروتين والكالسيوم والفيتامينات الضرورية، لكن الحصار الإسرائيلي الخانق يمنع دخول الأغذية والمستلزمات الطبية، حتى المسكنات الأساسية لم تعد متوفرة.
ويضيف "أحتاج لأدوية خاصة، لكنها بطبيعة الحال مفقودة، وإن وُجدت الأطعمة فإن أسعارها مرتفعة، وكل شيء أصبح صعبا، حتى أبسط حقوقنا في الحياة أصبح الحصول عليه مستحيلا".
خيمة وهاتف
ورغم الفقد والجوع والمرض، يحاول البردويل أن يتمسك بشيء من الحياة، يحتفظ بهاتفه -الناجي الوحيد معه-، ويعمل من خلاله على الإنترنت، حيث يحصل على تحويلات صغيرة من المال من عملاء قدامى، بالكاد تكفي لسد رمقه.
ويعمل البردويل من تحت شادر متهالك في خيمته، ويقول بابتسامة حزينة "أعلم جيدا أن ما أقوم به لن يعيد لي عائلتي، لكن سأبقى مستمرا على ذلك حتى أبقى على قيد الحياة".
ويختم حديثه بصوت يملؤه الحزن والألم "الجوع في حياتي وإن بدا صعبا وقاتلا، إلا أنه هين ويسير أمام مأساة الفقد ولوعة الفراق، فالجوع أستطيع التحايل عليه بالاحتمال والصبر، وإن لم أفلح فسيقتلني مرة واحدة".
ويضيف مستدركا "لكن فراق أحبتي وعائلتي وزوجتي وأطفالي، وغياب أرواحهم، يعذبني ويكوي أضلعي، إنه يقتلني في اليوم ألف مرة، وكأن الله يريد أن يختبر صبري، وأنا أحاول مقاومة الجوع بالحياة رغم صعوبتها وقساوتها".
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، دخل قطاع غزة المرحلة الثالثة من المجاعة، وفق تصنيف شبكة معلومات الأمن الغذائي العالمية (آي بي سي) حيث تتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل خطير، وسط نقص حاد في الدواء وانعدام شبه تام للغذاء.
الجزيرة