صالح الشرّاب العبّادي
لا شيء أكثر خطورة على الوعي
من أن يتحوّل الضحية إلى متهم، ومن أن يصبح المقاوم الذي يقاتل المحتل كأنه “مجرم حرب” في محكمة الضعفاء. هذا التحوّل لم يكن يومًا بريئًا، ولم يأتِ صدفة، بل كان ثمرة سنوات طويلة
من الدعاية، والتهشيم، والتخويف، ومحاولات تصنيع عقل عربي منزوع الإرادة، منفصل عن تاريخه، متصالح مع ضعفه، وخائف
من صرخته.
اليوم، باتت المقاومة في قفص الاتهام.
بعض الأصوات، وبعض الوجوه التي تسوّق لنفسها باعتبارها “رموزًا”، وقفت على الهواء مباشرة تشتم المقاومة، تلعن دماء الشهداء، تلوم المقاتلين على ما آلت إليه الأمور، وتُحمّل الضحية مسؤولية كل جريمة ارتكبتها “إسرائيل” منذ 1948 وحتى اللحظة.
ولأننا أمام حالة خطف للوعي العام، كان واجبًا أن نعيد طرح الأسئلة الكبرى:
ما هي المقاومة؟
لماذا تقاتل؟
ومتى يصبح لوم المقاومة خيانة للحق وللوطن؟
أولاً: ما هي المقاومة؟ إعادة تعريف الضروري
المقاومة ليست حادثًا طارئًا، ولا خيارًا ثانويًا، ولا ظاهرة عابرة ظهرت في السابع
من أكتوبر. المقاومة هي التعبير الأعمق عن وجود شعب، وهي اللغة الأخيرة التي يلجأ إليها البشر حين تُغلق كل الأبواب، وتُقفل كل الطرق، وتتراجع كل الجيوش، ويتخلى العالم عن العدالة.
هل حررت الشعوب أوطانها عبر البيانات الرسمية؟
هل خرج المستعمر
من الجزائر لأن بعض السياسيين طلبوا منه “التفاهم”؟
هل تراجع الاحتلال الفرنسي عن تونس والمغرب لأن “إعلاميي” تلك الحقبة كانوا يكرهون صوت الثورة؟
هل سقط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بالمصافحة؟
لقد تحررت الشعوب بكل ما استطاعت
من أدوات الضغط والدم والتضحية.
المقاومة هي القانون الطبيعي للشعوب التي يضعها الاحتلال أمام خيار واحد: الاستسلام أو الموت واقفة.
ثانياً: هل كانت فلسطين قبل السابع
من أكتوبر بخير؟
السؤال الاستفزازي الذي يطرحه البعض –
من باب تبرير لوم المقاومة – هو: “ماذا فعلت المقاومة؟ ما الذي جلبته لأهل غزة؟”.
والإجابة لا تحتاج إلى تردد:
هل كانت غزة قبل السابع
من أكتوبر جنة؟
هل كان الحصار مرفوعًا؟
هل كان الاحتلال قد انسحب
من الضفة الغربية؟
هل توقفت اقتحامات المسجد الأقصى والخليل وكنيسة القيامة؟
هل عاد اللاجئون؟
هل توقفت عمليات القتل والمجازر والاغتيالات والاعتقال والتهجير؟
إن
من يحمّل المقاومة مسؤولية الماضي، هو ذاته الذي يريد أن يقتنع بأن الاحتلال كان لطيفًا وهادئًا وعادلاً… وأن السابع
من أكتوبر هو المشكلة، وليس 1948 و1967 وجرائم 75 سنة.
ثالثاً: ثلاث فئات تصنع الضباب
اليوم نقف أمام ثلاث فئات واضحة:
1. فئة تؤمن بأن المقاومة واجبٌ وحق
هؤلاء يعرفون أن الاحتلال لا يرحل إلا إذا أجبرته القوة.
هؤلاء يقرأون التاريخ كما هو، لا كما يريد الإعلام تلوينه.
ويفهمون أن الدم الذي يسيل اليوم، سال
من قبله دماء أكثر، وأن الثمن لم يُدفع بعد.
2. فئة تجرّم المقاومة وتحملها خطايا الاحتلال
هؤلاء هم نتاج الإعلام المبرمج، السرديات البديلة، التوجيه النفسي، والضغط السياسي.
يحمّلون المقاومة نتيجة سبعة عقود
من الاحتلال… وكأن التحرير كان على الأبواب لولا “عناد المقاومين”!
هؤلاء يريدون مقاومة بلا مقاومة، وانتصارًا بلا دم، وكرامة بلا ثمن.
3. فئة صامتة في المنطقة الرمادية
لا تريد أن تخسر أحدًا، ولا تريد أن تلتزم بشيء.
تكتفي بالمتابعة والتعليق
من بعيد.
وهي الأخطر، لأن الصمت في لحظة الحق هو انحياز مبطّن إلى الباطل.
رابعاً: ما الذي أغضبهم في المقاومة؟
لم يغضبهم السابع
من أكتوبر.
أقسم أنهم لا يغضبون للمجازر.
ولا يبكون على الأطفال.
الذي أغضبهم هو أن المقاومة كسرت معادلة “إسرائيل التي لا تُهزم”.
الذي أخافهم هو أن مقاتلين حفاة
من غزة مرّغوا كبرياء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في التراب.
الذي أقلقهم هو انهيار صورة جيش الاحتلال الذي كان يُسوّق له أنه “الأقوى في الشرق الأوسط”.
والذي يخيفهم مراكزهم ومناصبهم وامتيازاتهم ومكانتهم التي يخشون ان تسحقها اسرائيل..
باختصار:
المقاومة كسرت الخوف… والخوف كان بالنسبة لهم دينًا سياسيًا يعيشون عليه.
خامساً: للمقاومة الحق في اختيار أدواتها
في القانون الدولي، يُعتبر الاحتلال جريمة.
ويعطي القانون حقًا مطلقًا للشعوب في مقاومته بكل الوسائل، بما فيها الكفاح المسلح.
السؤال: هل يحق للمحتل أن يختار شكل المقاومة التي تناسبه؟
هل يجوز للمغتصِب أن يضع شروطًا على
من يقاومه؟
المقاومة لها الحق أن تستخدم:
السلاح،
الخطف،
الأنفاق،
الكمائن،
الصواريخ،
المناورة،
التفاوض، والعمل السياسي
الانغماس،
المفاجأة،
حرب التكيّف،
حرب العصابات والمدن
والصبر الطويل.
لأنها تقاتل عدواً غاصبًا مختلاً محتلاً لا يفهم إلا لغة القوة.
سادساً: الحقيقة التي يخافون
من قولها
لو لم تقاتل المقاومة، لما بقى للفلسطينيين ما يدافعون عنه أصلًا.
لكان الاستيطان ابتلع الضفة بالكامل.
لكان الاحتلال أزال غزة
من الخريطة.
لكانت القدس تكرر مأساة الحرم الإبراهيمي، ولكن على نطاق أكبر.
المقاومة ليست خيارًا ترفيهيًا…
إنها حائط الصد الأخير في وجه مشروع واضح:
اقتلاع الشعب، وإنهاء القضية، وإغلاق الملف إلى الأبد.
سابعاً: لماذا يلومون المقاومة؟
يلومونها لأنهم عاجزون.
يلومونها لأن دم الشهداء يفضح صمتهم.
يلومونها لأن الشجاعة تُحرج الجبناء.
يلومونها لأن صمود غزة يُذكّرهم بما فقدوه هم: الإرادة، الكرامة، والإيمان بالحقيقة.
ثامناً: السابع
من أكتوبر لم يكن بداية… كان انفجارًا طبيعيًا للتاريخ
من يقرأ سبعين عامًا
من الاضطهاد يدرك أن ما حدث لم يكن قرارًا سياسيًا، بل نتيجة حتمية لظلم متراكم.
الفلسطيني لم يختر الدم… الدم هو الذي اختاره.
والاحتلال هو الذي صنع المقاومة، وليس العكس.
تاسعاً: لماذا الدفاع عن المقاومة اليوم ضرورة أخلاقية؟
لأننا اليوم وسط معركة على الوعي، أخطر
من المعركة العسكرية نفسها.
يريدون أن يقنعوا الناس أن الاحتلال طبيعي… وأن المقاومة خطيئة.
يريدون أن يقلبوا تعريف الجريمة… وأن يصبح الضحية هو المتهم.
الدفاع عن المقاومة دفاع عن الحق، وعن المنطق، وعن التاريخ، وعن الثبات الأخير في روح الأمة.
عاشراً وأخيراً ،
من يلوم المقاومة… يلوم الوطن
إن
من يجرّم المقاومة يفتح الباب لقتل آخر فكرة نبيلة بقيت في الوجدان العربي.
ومن يهاجمها، يهاجم التاريخ كله.
ومن يلومها،
يلوم الوطن نفسه.
ومن ينكرها ، ينكر دم الشهداء الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم على ثرى فلسطين الحبيبة ..
المقاومة ليست بندقية فقط…
هي ذاكرة أمة، وقلب شعب، وحلم طفل، ووصية شهيد، وصوت الأرض التي لا تنحني.
ومن يقف ضدها…
فقد اختار بوضوح أن يقف مع الاحتلال، لو حاول او قدم كل التبرير ،و صور المحتل انه صورة حمل وديع يريد التعايش ، ومهما اختار النتائج دون الرجوع إلى تاريخ النضال ..