أخبار اليوم - كانت كاميرته توثّق الحياة المنكوبة في قلب محافظة خان يونس من الأعلى، ترصد تداعيات الحرب، وعودة الأهالي إلى ما تبقّى من منازلهم: أسقف معلّقة، أعمدة مائلة، وجدران مفتوحة على الطرقات وفي الهواء، وشوارع يملؤها الركام. وفجأة يتوقف التسجيل، وتسقط الكاميرا، وينزف الصحفي محمود وادي دمًا بعد أن استهدفه صاروخ إسرائيلي وهو يمارس مهنته صباح الثلاثاء الماضي.
المصوّر محمود وادي قدّم واحدًا من أهم أشكال التوثيق البصري للحرب على غزة؛ فقد كان يصوّر القطاع من الأعلى عبر طائرة "درون"، ويقارن في فيديوهاته بين لقطات التقطها قبل الحرب وما آلت إليه المدينة بعدها. في مشاهده الجوية، تتحوّل غزة من مدينة عصرية تنبض بالحياة إلى رقعة مدمّرة؛ لا أبنية، ولا شوارع، ولا أشجار، كانت تظهر تلك اللقطات الجوية الأثر الواسع للإبادة باستخدام تقنية التصوير 360 درجة مئوية.
في بداياته كان يعمل مصورا للجمال والحب وللفرح، واختص بتصوير الأفراح والمناسبات وامتلك استديو تصوير خاص به وسط خان يونس، وتميز بتصوير الاحتفالات والمهرجانات، ومع حرب الإبادة انتقل للعمل مصورا صحفيا، فسخر كاميراته لتوثيق مشاهد الدمار والركام، ونقل أوجاع الأهالي بعدما نقل أفراحهم قبل الحرب.
كان محمود صاحب رؤية إبداعية فريدة، يقدّم توثيقًا جوّيًا افتقدته الصحافة الفلسطينية خلال الحرب بفعل استهدافها الفوري من قبل جيش الاحتلال لهذا النوع من التوثيق، في محاولة لطمس الصورة من الأعلى واحتكار الرواية، لكن قبل رحيله، وثّق محمود مواقع عديدة، فنشر على صفحته على فيسبوك الأماكن التي بلغها بعدسته، فتظهر تلك الصور حجم الحقيقة التي حاول إيصالها للعالم.
على صفحته الشخصية، يكتب وادي "همتي لأمتي"، كلمتان تكفيان لفهم شخصيته، وأسفلها استشهد ببيت من الشعر "أعلل النفس بالأمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
من المشاهد التي وثقها من الأعلى حجم الدمار لدوار بني سهيلا، وحجم ما آلت إليه الأمور بعد الحرب ليتحول المفرق الرئيسي الذي يربط مدينة خان يونس بالبلدات الشرقية، من حلته العصرية وبشوارعه الجديدة كونه يتوسط شارع صلاح الدين، إلى خراب وكأنه صورة لمنطقة أخرى.
ووثق مشاهد مماثلة لمبنى بلدية خان يونس والذي تحولت واجهته من الرخام إلى كومة ركام، وساحة الجندي المجهول بمدينة غزة بعد تحولها من متنزه تملأ الأشجار جنباته على غرار دول العالم، إلى ساحة رملية تملؤها الخيام، وصور بتقنية 360 درجة لمناطق قيزان أبو رشوان وشارع الأبرار ودوار "موزة" وشارع "الجميزة" قرب القرارة والحي الياباني ومسجد القبة وساحل بحر خان يونس بخان يونس، ودوار المالية ومفترق مستشفى الشفاء ومنطقة غزة القديمة ومفترق السامر وقصر الباشا.
كاميرا تحلق في السماء
وخلال الحرب حاول الاحتلال إخفاء أي صور جوية تظهر الدمار من الأعلى، وخلال عمليات الإنزال الجوي للمساعدات منع المصورين المرافقين للدول التي ألقت المساعدات من إظهار الدمار، إلا أن وادي لم يذعن للتهديدات.
تقول شقيقه سمية وادي لـ "فلسطين أون لاين": "مع بداية وقف إطلاق النار، تنقل أخي من شمال القطاع إلى جنوبه، يصور المشاهد المؤلمة والقاسية، ويصور الركام والدمار في اليوم، كنا نخاف عليه لكن حبه لهذا العمل لم يتخل عنه".
وأضافت وهي تستحضر صورته الأخيرة: "ودعنا دون أن نشعر، فسلم على أخوتي كل في مكان سكنه، وزار أختي التي تبعد أمتارًا من مكانه المستهدف، وكان يلتقط الصور قرب "دوار أبو حميد" وهناك جرى استهدافه بصاروخ إسرائيلي، أدت لبتر قدميه وإصابة بليغة في الرأس أدى لتهشم كبير بمنطقة الظهر وبتر يده، واستشهد".
تخرج كلماتها مثقلة بالفقد: "كان أخي وصديقي، وكاتم أسراري، المعدن الطيب والروح الهادئة، قليل الكلام كثير الفعل، منذ صغرنا وهو يسابق الزمن بحثا عن كل ما هو متطور وجديد في عالم التصوير، وكان يتعلم أشياء جديدة ليكون متميزا حتى لو لا يحتاجها في عمله ورزقه، وكان طيبا وحنونا يقف عند حاجتنا دون أن نشعر أو نطلب".
وتفاجأت شقيقته أنه كان يقف عند حاجة الكثير من الأقارب والمعارف وعند كل ما يحتاجونه، "كان صاحب فكرة نبيلة وروحا عالية، مؤمنا أنه على حق وأن العدالة ستنتصر، وأن الحرب مهما ضاقت لا بد أن تنتهي قريبا، وأن يكتب النصر لنا، وكان يحلم أن يحلق مثل طائرته التي عانقت سماء غزة وقتا طويلا".
بنبرة ممتلئة فخرا رغم الفقد، تتابع: "محمود أكبر مني بعام لكنه كان مثل والدي، وأهم شيء في حياتي وأجمل شيء، كان متبصرا وواعيا وكان مرشدا وحكيما في كل ما واجهناه في حياتنا العلمية والعملية، وكوني شاعرة كان يوثق الفعاليات التي كنت أنظمها لأعمالي الشعرية، وكان صاحب الكواليس الجميلة التي تظهر أمام الملأ".
وبالرغم من أنها كانت قريبة منه قبل الحرب، إلا أن الحرب كشفت أشياء جديدة في شخصيته، يملأ الفخر كلماتها بفخر يجر ذكريات جميلة: "في الحرب وحدها كان سجلا كبيرا من الحب والعطاء، وقف عند حاجتي بشكل كبير، فقد بيته واستديو التصوير الخاص به، تقاسم معي الطحين الذي كان يمتلكه في خيمته، وكان يوفر ما احتاجه لي ولأصدقائه دون أن نطلب، ما كان في يده لم يكن له، فكانت رسالته واضحة أن الفلسطيني صاحب حق ويجب أن ينتصر".
الاتصال الأخير
قبل ليلة استشهاده، تلقى صديقه محمد أبو عبيد اتصالا هاتفيا من محمود، وكان صوته غير معتاد "محمد بدي إياك تجيني ضروري.. الموضوع خطير، لازم تيجي"، أمام الإصرار، ترك صديقه عمله ووصله قبيل المغرب.
يروي أبو عبيد لـ "فلسطين أون لاين": "دخلت عليه وكنت قلقا بحدوث أمر له، لكنه ابتسم وطلب مني الجلوس قائلا: "مشتاقلك وحابب أقعد معك"، استغربت الأمر لكني تفهمت مدى شوقه لجلوسنا، وكلما تأخر الوقت وهممت بالمغادرة كان يلح علي بالبقاء أو النوم عندهم. تحدث كثيرا عن تفاصيل الحياة والعمل حتى طرقت الساعة منتصف الليل، وأوصلني مشيا ورافقنا طفله الوحيد عصام (3 سنوات) وبصعوبة تركني أعود لمنزلي".
صباح اليوم التالي، تلقى أبو عبيد اتصالا من محمود يسأله عن تفاصيل عمله اليوم، فأخبره أنه سيعد تقريرا صحفيا ثم يعود لعمله بمستشفى ناصر، أما هو فأخبر صديقه أنه سيوثق الإبادة من الأعلى بمحيط دوار أبو حميد بخان يونس، واتفقا على الخروج معا بعد انتهائهم من العمل.
يعلق والحزن يملأ قلبه: "لم أكن أعرف أنه يودعني. هو شخص نقي وكان بوضع مادي جيد ويساعد الآخرين، حتى ونحن نسير في الطريق كان يعطي المحتاجين بسخاء، فما كان بيده ليس له. تعارفنا عام 2017 وتوطدت علاقتنا في الحرب كثيرا".
احتفظ وادي بجزء كبير من مهارته وإبداعه في التصوير لما بعد الحرب، وبعد وقف إطلاق النار بدأ يوثق مشاهد جوية لصالح وكالات دولية، يقول أبو عبيد عن ذلك: "كان مختلفا عن الصحفيين، فلم يوثق بالطريقة التقليدية، وصوره كانت مشاهد متحركة للأرقام التي كانت تحدد نسبة الدمار، وبينت حجم الخراب الذي لحق بقطاع غزة، خاصة عند مرافقته لطواقم البلديات والدفاع المدني، مما جعل جيش الاحتلال يستهدفه قبل أن تتوسع نطاق تغطيته".
نزفت الصحافة في بداية الحرب ووسطها وبعد نهايتها، ولا تزال تنزف. ولا يزال الصحفيون يكتبون القصة والخبر بحبرٍ ممزوجٍ بدمائهم.
المصدر / فلسطين أون لاين