هل تحولت الهيئات المستقلة إلى “حكومة داخل حكومة”؟

mainThumb
هل تحولت الهيئات المستقلة إلى “حكومة داخل حكومة”؟ جدل تحت القبة خلال مناقشة مشروع قانون الموازنة

13-12-2025 05:04 PM

printIcon


 أخبار اليوم - سهم محمد العبادي - تحت قبة مجلس النواب، وأثناء مناقشة مشروع قانون الموازنة، عاد ملف الهيئات المستقلة إلى الواجهة كأحد أكثر الملفات إثارة للجدل، بعدما طُرحت تساؤلات مباشرة حول ما إذا كانت هذه الهيئات تعمل فعليًا كحكومة داخل الحكومة، وكيف يمكن تبرير استمرار توسعها المالي والإداري في وقت تُرفع فيه على الدوام لافتة العجز لتقييد أي تحسينات على رواتب الموظفين أو توسيع مظلة الإنفاق الاجتماعي.

النقاش لم يكن عاطفيًا، بل أخذ طابعًا عمليًا: ما الذي أضافته الهيئات المستقلة على كفاءة الإدارة العامة؟ وما الفارق الذي حققته في الخدمة مقارنة بالوزارات التي قامت أصلًا لنفس الغايات؟ هنا تحديدًا ظهرت الفكرة الأكثر تكرارًا تحت القبة: أن جزءًا من هذه الهيئات تحول إلى “إمبراطوريات” إدارية بميزانيات وسلالم رواتب وامتيازات منفصلة عن قواعد الخدمة العامة، ما خلق طبقتين داخل الدولة؛ طبقة تعمل وفق سقوف مالية محددة بحجة الانضباط المالي، وأخرى تتمدد في الرواتب والبدلات والمكافآت ضمن مظلة “الاستقلال”.

في مداولات الموازنة، تتحول الأرقام إلى أسئلة سياسية وإدارية. السؤال الأول يرتبط بالجدوى: إذا كانت الوزارة موجودة والهيئة موجودة في القطاع ذاته، فمن يقود السياسات؟ ومن يحاسب؟ ثم يأتي سؤال الكلفة: كم تستهلك هذه الهيئات من النفقات الجارية مقارنة بما تضيفه من قيمة فعلية؟ السؤال الثالث أشد حساسية: لماذا تبدو الرقابة أضعف عندما يتعلق الأمر بهيئات توصف بأنها “مستقلة”، وكأن الاستقلال أصبح بابًا لتخفيف المحاسبة لا لتحسين الأداء.

الجزء الأكثر حدة في النقاش تمحور حول الفجوة بين الخطاب الحكومي والواقع المالي. فحين يُقال إن زيادة الرواتب أو تحسين الخدمة صعب بسبب العجز، يظهر على الطاولة سؤال معاكس: إذا كانت الدولة عاجزة، فلماذا تبقى النفقات الجارية المرتفعة في بعض المواقع دون مراجعة صارمة؟ ولماذا لا يبدأ “شد الحزام” من الأعلى قبل الطلب من الناس تحمّل أثقال الغلاء؟ هذه ليست شعارات؛ إنها معادلة محاسبية واضحة: كل دينار يذهب إلى نفقات تشغيلية غير مبررة يقلل قدرة الدولة على توجيه الموارد نحو الاستثمار والخدمات الأساسية.

وبينما يُطرح “التحديث الإداري” عنوانًا عامًا، بدا واضحًا في النقاش النيابي أن المشكلة لا تتعلق بوجود الهيئات وحده، بل بآلية إدارتها وربطها بالأداء. فجوهر الإصلاح في هذا الملف لا يمر عبر إطلاق أوصاف عامة، بل عبر حزمة قرارات قابلة للقياس: حصر مهام كل هيئة بدقة، منع التداخل مع الوزارات، إظهار كلفة التشغيل على نحو شفاف ضمن وثائق الموازنة، وتوحيد قواعد الرواتب والمكافآت وفق معايير موضوعية، وربط أي إنفاق إضافي بمؤشرات أداء معلنة، بحيث تصبح النتائج هي معيار الاستمرار لا النفوذ الإداري أو العرف السياسي.

كما كشف النقاش داخل الموازنة عن ثغرة إضافية: دور مجلس النواب نفسه في المتابعة بعد كشف المعلومات. فالمساءلة لا تتوقف عند طرح الأسئلة تحت القبة؛ معناها أن يتحول ما يُقال إلى أدوات رقابية تتابع وتطلب وتوثّق وتحاسب، وإلا سيبقى الحديث في كل موسم موازنة مرتفعًا ثم يعود للهدوء دون أثر ملموس على الإدارة العامة أو على جيب المواطن.

في المحصلة، ما ظهر خلال مناقشة مشروع قانون الموازنة أن ملف الهيئات المستقلة لم يعد سؤالًا تنظيميًا فقط، بل سؤال عدالة وكفاءة واستدامة مالية. والسؤال الذي يبقى مطروحًا بوضوح: هل تتحول هذه الملاحظات تحت القبة إلى قرارات تعيد ضبط الإنفاق وتوحّد المعايير وتُخضع الجميع لرقابة واحدة، أم يبقى الملف حاضرًا في الخطابات وغائبًا في بنية القرار؟