بقلم: عاطف أبوحجر
في موسم الطهر والصفاء، حين تفتح السماء أبوابها، ويقف الملايين بقلوب واجفة وأكف مرفوعة، تهفو الأرواح إلى تلك الرحلة الخالدة... إلى الحج.
لكن للحج في الذاكرة طعمٌ آخر... نكهة عالقة في القلب لا تمحوها الأيام، ولا تُطفئها السنون. طقوسٌ اجتماعية وروحية خالدة، تسكن وجداننا، وتتجدد في كل موسم، كما لو كانت بالأمس القريب.
أتذكّر جيدًا كيف كان موسم الحج حدثًا استثنائيًا في الحيّ.
حين يعود الحجاج، كنا نحن صغار الحارة نتسابق للسلام عليهم، لا حبًّا بالثواب فحسب، بل شوقًا لما يحملونه معهم من هدايا كانت في أعيننا أحلامًا مؤجلة.
كنا ننتظرهم بشغف لا يوصف، نترقّب فرد الشرار ، ذلك المسدس البلاستيكي الذهبي اللامع الفاخر الذي كان رمزًا للفخر والتباهي بيننا.
وكان التلفاز الصغير الذي يُعرض فيه شريط صور كالكعبة، والمسجد الحرام، والمدينة المنورة، ومسجد النبي ﷺ، وغار حراء، وبئر زمزم، أشبه بـ"الداتا شو" الذي ينقلنا من الأزقة الضيقة إلى أقدس بقاع الأرض.
لم تكن المسابح أو السواك تغرينا، إذ كنا لا نزال صغارًا، لم نفقه بعد الواجبات الدينية، لكننا كنا ندرك أنّ هناك روحًا عظيمة تحلّ في المكان حين يعود الحجاج، وأن في صحبتهم بركة لا توصف.
كانوا يوزّعون علينا تمرًا مغطّى بالسمن البلدي، ونشرب من ماء زمزم في كؤوس صغيرة مذهّبة، بالإضافة لهديا البنات من الأساور والسلاسل والخواتم والتى تُزيّنها صور الكعبة الشريفة.
وكانت الحارة كلّها تحتفي بعودتهم بالغناء والترحيب، كما ودّعتهم بالدعاء والدموع.
تعلو أصوات النساء:
"افتح البوابة، واهدي سلامي للنبي وأصحابه"
"يا نبي مشتاقة أزورك، وأتفتّل على سورك، وأتبخّر بنورك..."
"افتح البواب يا النبي الأخضر..."
تقاليد عفوية، لكنها كانت تبعث في القلب فرحًا لا يُوصف، وتغمر الروح بهالة من السكينة والمحبة.
هؤلاء الناس الذين عشنا معهم هذه اللحظات ليسوا علماء دين، ولا أصحاب شهادات عليا، لكنهم كانوا مدرسة في الأخلاق، وسفراء للقيم، ومعنىً حقيقيّ للأصالة والبركة.
تربّينا على أيديهم، فتعلمنا منهم احترام الكبار، والرحمة بالصغار، والصدق في المعاملة.
أتذكّر جيدًا تلك الصور التي لم تفارق ذاكرتي، حين كنا نحمل أغصان "الدفلى" و"القصيب" من وادي شعيب، لزينة أبواب ومداخل بيوت الحجاج.
لكن الزمن تغيّر...
فرد الشرار الذهبي صار فرد ليزر، وتلفاز الصور المقدّسة أصبح جهازًا لوحيًا ذكيًا، والمسبحة ذات الخرز تحوّلت إلى مسبحة إلكترونية.
ولا أنسى خالي أبوحاتم أحمد الفلاح الصالح ألوشاح، حفظه الله، كان رمزًا للعطاء، متطوّعًا مخلصًا، ينظّم رحلات الحج والعمرة للعائلة والجيران والأصدقاء.
كان منظمًا لأبعد الحدود، يُعدّ الجوازات، ويتابع إجراءات السفر، ويحرص على راحة رفقاء الرحلة.
وكنت أراه، عند وداع الحجاج قبل أكثر من ثلاثين عامًا، يحمل معهم صناديق الخُضار والفواكه، ويحمل القهوة والشاي، ويوصي بجلب "قرميزات" المونة: من الجبن، والمقدوس، والزيت والزيتون، فكانت رحلاتهم تجمع بين الدين والدفء الإنساني والتقاليد الجميلة.
وفي النهاية، أستذكر رحلتي للحج مع والدتي الى الحج، تلك الرحلة المباركة التي سعى لها أخي وقُرّة عيني، عطوفة عادل بيك، جزاه الله عنّا خير الجزاء.
كانت رحلة غيرت أشياء كثيرة في داخلي...
رحلة أعادت ترتيب إيماني، وجعلتني أكثر التزامًا بواجباتي، وأقرب إلى الله، وكم في الحج من دروس لا تُنسى!
وما أجمل ذلك اليوم، يوم وقفة عرفة، حين يهتف الحجيج بصوتٍ واحدٍ:
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك..."
اللهم ارزق كل مشتاق زيارة بيتك، وسُقيا من زمزم، وسجدةً عند الكعبة، ودمعةً على جبل الرحمة.