القبور "أمنية" في غزة .. الشهداء ينتظرون الدفن

mainThumb
القبور "أمنية" في غزة.. الشهداء ينتظرون الدفن

05-07-2025 09:48 AM

printIcon

أخبار اليوم - تحت شجرة وحيدة في مقبرة دير البلح، استقرت الحال بخالد عبد العزيز لساعة كاملة بجوار جثمان شقيقته، في انتظار التمكن من مواراتها في الثرى في قبر بات "أمنية" لأهالي الشهداء وسط حرب الإبادة الجماعية.

"مرّ الوقت ثقيلا.. أنا والجثمان تحت ظل الشجرة كأننا ننتظر إذنا من السماء لدفن الألم، ننتظر أن يتصدق علينا التراب بمساحة وداع"، يروي عبد العزيز لصحيفة "فلسطين"، واحدة من أقسى اللحظات في حياته.

ومع استشهاد أكثر من 57 ألف مواطن في غزة، واستمرار الاحتلال في شن حرب الإبادة الجماعية للشهر الـ21 تواليا، وحصد أرواح الأبرياء، نفدت القبور في معظم مناطق القطاع، وهو ما أكدته وزارة الأوقاف أخيرا.

في تفاصيل الواقعة، تجتاح الأوجاع نبرة عبد العزيز: "يوم استشهاد شقيقتي الكبرى، ضاقت بنا الأرض وضاقت المقابر بما رحبت، فمخيمنا البريج أحكم جيش الاحتلال حصاره عليه ومُنعنا قسرا من دفنها. طرقنا أبواب مقبرة النصيرات والزوايدة، لكن الموت كان أسرع من التراب، والمكان ضاق حتى عن جثامينه".

كل المحاولات أوصلتهم إلى دير البلح، لكن حتى هناك، لا قبور. جلس عبد العزيز وشقيقه وبجوارهما الجثمان بانتظار "الفرج"، حتى جاء المشرف على المقبرة، وقال بصوت مكسور: "لا قبور... لكن هناك قبر جماعي سيضم سبع فتيات شهيدات من آل إسماعيل بالمغازي، هل تقبل أن تكون أختك الثامنة؟".

لم يجد الشاب المكلوم خيارا سوى القبول، قائلا: "ما عاد لنا في هذه البلاد متسعٌ حتى للموتى، وما عاد للوداع طقوسٌ تُشبهُه… إلا هذا التراب الذي ضنّ علينا، وهذا القلب الذي لم يعد يعرف أين يضع فاجعته".

وبأسى، يلخص واقع الحال: "غزة اليوم لا تعرف أين تدفن أبناءها، فالقبور امتلأت والألم فاض، وأحيانا… يكون ظل الشجر هو الكفن الوحيد لمن نحُب".

"أين سندفن الشهداء القادمين"؟

هذه الصورة ليست حالة فردية، بل واقع يثبته الميدان، إذ يصف اختصاصي الصحة النفسية د. سعيد الكحلوت، المشهد قائلا: "في غزة، نفدت القبور، ولم يعد للموت مكان يحفظ كرامة الضحايا.. هذا ليس مجازًا".

ويضيف عبر حسابه في فيسبوك: "لم تعد ثمة حفر كافية لاستقبال الجثث، ولا حتى ما يكفي من التراب النظيف لتغطية أجساد الأطفال الهشة التي استراحت أخيرا من ظلم العالم".

وفي تعبيره عن المأساة، يقول: "كاميرات البث المباشر لا تنقل مراسم تشييع بل عرضا للكارثة. حفّار قبور يجلس القرفصاء، ينظر إلى تربة خُرّبت بالقصف، ويهمس: أين سندفن الشهداء القادمين؟".


وفي طرف آخر من المشهد، أم تلف ابنها الشهيد بكوفيته، تنظر إلى الغيم وتهمس: "فليمت أحدهم واقفا… لا مكان للرقاد على هذه الأرض"، والحديث لا يزال للكحلوت.

ويتابع: القبور تُحفر على عجل، الجثامين تُصفّ كما تُرص صناديق المساعدات. يسأل طفل والده: "ليش بيسكروا القبر بسرعة؟" فيجيبه الأب، وهو يشد الكفن على جسد آخر: "عشان الدور طويل يا بابا… لازم نخلّص".

ويلخص الأزمة: "هذا هو الموت في غزة: موت بلا مراسم، بلا وداع، بلا وقت. أصوات التكبير تقاطعها الانفجارات. والجنازات تمضي كقوافل تائهة لا تعرف إلى أين".

استنزاف المقابر

ووفق معطيات رسمية، دمر الاحتلال منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أكثر من 40 مقبرة كليا أو جزئيا، ومنع المواطنين من الوصول إلى مقابر تقع ضمن سيطرته العسكرية، مما أدى إلى تقلص المساحات المخصصة للدفن واستنزاف المقابر القائمة.

ومع إجبار الأهالي على النزوح إلى "المواصي"، تحولت الأراضي إلى مخيمات وخيام، ولم تعد تصلح حتى لدفن الشهداء، وتكدست الجثامين في مستشفيات بلا قدرة على الاستيعاب، وساحات مدارس تحولت إلى مدافن طارئة.

واضطر الأهالي إلى اللجوء للحجارة المهدمة بدل الإسمنت، والطين بدل البلاط، والزينكو لتغطية القبور.

لكن حتى هذه البدائل أصبحت نادرة أو باهظة، حيث وصل تجهيز القبر الواحد إلى 700 – 1000 شيكل.

وقبل أيام، أعلنت إدارة مغسلة مستشفى ناصر الطبي في خان يونس نفاد كمية القبور المخصصة لدفن الشهداء والأموات.

وأمام هذا العجز، أطلقت وزارة الأوقاف حملة "إكرام"، مناشدة فيها الدول العربية والإسلامية، والمؤسسات الإغاثية، وأصحاب الضمائر الحية، المساهمة في بناء قبور مجانية تليق بإكرام الشهداء.

وجاء في المناشدة: "ندعو إلى توفير الأكفان، ومواد البناء، ومعدات الدفن، ودعم إنشاء قبور إنسانية وشرعية لدفن الشهداء والموتى وفقا للأحكام الإسلامية".

هي صرخة من تحت الركام، ومن قلب مدينة اختنقت بأحيائها وأمواتها معا.

 فلسطين أون لاين