القصف يفتك بالأمل .. قصة عائلة كلاب بين النزوح والجراح

mainThumb
القصف يفتك بالأمل.. قصة عائلة كلاب بين النزوح والجراح

26-08-2025 09:22 AM

printIcon

أخبار اليوم - لم يكن محسن كلاب، الأب الخمسيني، يتوقع أن يتحول النزوح الذي لجأ إليه لحماية أسرته من آلة الحرب الإسرائيلية، إلى محطة جديدة من الفقد والدماء.

محسن، وهو أب لستة أبناء، اضطر في الأيام الأولى من التصعيد الإسرائيلي المكثف على قطاع غزة إلى مغادرة منزله بعد أن أصبحت الحياة فيه مستحيلة، والقذائف تتساقط من كل اتجاه.

"ما كنتش بدي أترك البيت، بس صار الخطر أكبر من أن أتحمله، فكرت أن أنقل ولادي لمكان آمن"، يقول محسن لـ "فلسطين أون لاين" بصوت يملؤه الوجع، واختار بيت أحد أقاربه في منطقة "أبو اسكندر" على أمل أن يجد فيه مأوى أكثر أمانًا.

لكن الأمان كان بعيدًا. بعد أيام قليلة فقط، باغتت طائرات الاحتلال المنطقة بقصف عنيف، واهتز المكان من شدته، وانهار جزء من المنزل الذي كانوا يحتمون به. ويتابع: "الصوت كان مرعبًا، كل شيء صار سحابًا من الغبرة والصراخ، ما كنت سامع إلا صوت بناتي يبكين".

النتيجة كانت مأساوية. استشهدت إحدى بناته، بينما أُصيب جميع أفراد الأسرة الآخرين بجراح متفاوتة، ولم يكن يتوقع أن تتحول أيامه إلى سلسلة متواصلة من الجراح والخسائر.

وبعد الحادثة بأيام، اقتحم جيش الاحتلال المنزل الذي احتمت به العائلة، ليكمل فصول المأساة بطريقة لا تقل قسوة.

يقول محسن: "دخلوا علينا ونحن في وضع لا يوصف، كلنا جرحى ومصدومون، لكنهم لم يراعوا ذلك. أخرجونا من البيت قسرًا، ما شافوا طفلي عبدالله ودمه ناشف؟".

عبدالله، ابن السابعة عشرة، كان مصابًا إصابة بالغة، فقد الكثير من دمه، وكان بحاجة عاجلة إلى عناية طبية، لكن الجنود أوهموه بأن طبيبًا في الخارج سينتظره، "قالوا له: اطلع في دكتور برا، بس لما طلع، ما لقى حدا"، يتابع والده بحرقة.

لم يجد عبدالله أمامه سوى قدميه المثقلتين بالجراح، فبدأ يمشي وحيدًا في الشوارع الخالية، حاملاً ألمه وجسده الضعيف، "ما كان في لا سيارة إسعاف، ولا عربة تنقله، مشى وهو ينزف"، يروي والده.

وبعد رحلة مرهقة، وصل عبدالله إلى أحد المستشفيات، وهناك كانت المفاجأة: نسبة دمه كانت 4٪ فقط، في وضع صحي حرج للغاية، واحتاج إلى تدخل فوري.

فالطفل الذي خدعه الجنود لم يكن يحمل سلاحًا، فقط كان يحمل ألمه، وجراحه، وأحلامه الصغيرة التي داستها الحرب. اليوم يتلقى عبدالله العلاج ويستعيد بعضًا من قوته، لكن والده يعلم أن الألم الحقيقي لم يكن في الجسد فقط، بل في الخذلان والخدعة، وفي مشهد ابنه يسير وحيدًا باحثًا عن حياة، في وقت تمارس فيه آلة الحرب كل أشكال الموت.

بعد أيام من وصول عبدالله إلى المستشفى، بدأت حالته تتدهور بشكل مخيف، يقول والده محسن بصوت متهدج: "كنت أشوف وجهه أصفر، وريحة غريبة طالعة من جرح رجله… ولما شفت الدود يخرج منها، قلبي انكسر".

الأطباء حاولوا إنقاذ قدم عبدالله، لكنهم أخبروا العائلة أن نسبة نجاح العلاج لا تتجاوز 20٪، والاحتمال الأكبر يتجه نحو بتر القدم. خبر كان كفيلًا بزلزلة عالمهم من جديد.

وهنا، بدأ محسن، الأب المكلوم، يُمهّد لابنه عبدالله الواقع الصعب. اقترب منه بهدوء، وابتسم رغم الدمع وقال له: "يمكن يا بابا رجلك سبقتك على الجنة… بس انت لسه فيك الروح، وفيك العزيمة".

لم يكتف بالكلمات فقط، بل ربط قدمه هو الآخر بقطعة قماش، وبدأ يعرج أمام عبدالله قائلًا: "شوفني، حتى وأنا أمشي برجلي المربوطة، ما في شي بيوقفني… العجز مش بالجسد، العجز في التفكير والتسليم".

كانت رسالة واضحة من أبٍ أنهكته الحرب، لكنه لا يريد لابنه أن ينهار. وضع يده على كتف عبدالله، ونظر في عينيه قائلًا: "إياك يوم تخلي حدا يطلع عليك بنظرة شفقة، ولا تسمح لنفسك تشفق على حالك… إنت مش ناقص، إنت أقوى من الحرب، وأقوى من البتر".

وبعد رحلة البتر والعلاج الطويل، الذي كان بمثابة اختبار صبر ووجع، بدأت العائلة تتهيأ نفسيًا لتركيب طرف صناعي لعبدالله، لكن الفحص الطبي الأخير بدّد تلك الآمال مؤقتًا، فقد أخبرهم الأطباء أن هناك عظمة بارزة وزائدة في موضع البتر، تعيق تركيب الطرف بشكل نهائي ويمكن الاعتماد عليه مؤقتًا فقط.

يستكمل والده محسن: "لما سمعت الكلام حسيت إننا رجعنا للمربع الأول، وكأن كل اللي مرينا فيه من وجع وأمل كان مؤجل، بس ما بننكسر… بنبدأ من جديد، ولو ألف مرة".

أما اعتماد، ابنة محسن ذات الـ21 عامًا، فما زالت تعاني بصمت من إصابة بالغة في كوع يدها اليسرى، فعقب القصف تآكل اللحم وتهتكت الأنسجة والعضلات، حتى أصبحت يدها شبه مشلولة لا تقوى على تحريكها.

يصمت والدها ثم يقول: "الوجع ما وقف عند عبدالله، ولا عندي، حتى بناتي نالهن نصيب من الألم… بس ما رح نسمح له يهزمنا، رح نكمل علاجها".

اعتماد بحاجة إلى علاج طبيعي مكثف وربما تدخل جراحي خارجي، لكن ظروف الحرب والنزوح ونقص الإمكانات الطبية يحاصرون جسدها، ويقيدون يدها كما قيدهم القصف ذات ليلة.

ورغم الألم الذي يسكن يدها، تحاول اعتماد ألا تجعل الإصابة حاجزًا أمام أحلامها، وتصّر على استكمال دراستها الجامعية رغم صعوبة حمل القلم أو تقليب الصفحات.

أما عبدالله، الذي بُترت قدمه، فيتشارك معها الأمل ذاته، كلاهما ينتظران بفارغ الصبر أن يُفتح المعبر المغلق، علّ فرصة السفر تُنقذ ما تبقى من جسديهما.

وينهي الأب محسن كلامه بصوت متهدج: "أكبر وجع إني أشوف أولادي موجوعين وأنا عاجز… بس لسه عنا أمل، وإن شاء الله بيجي اليوم اللي يتعالجوا فيه ويمشوا بدون وجع".



 فلسطين أون لاين