"مسيرة النضال الشعبي " .. وثيقة مقاومة في مواجهة سرقة التاريخ والجغرافيا

mainThumb
"مسيرة النضال الشعبي ".. وثيقة مقاومة في مواجهة سرقة التاريخ والجغرافيا

28-08-2025 12:00 PM

printIcon

أخبار اليوم - في زمن تتسارع محاولات طمس الهوية الفلسطينية ومصادرة الجغرافيا عبر مشاريع استيطانية خطيرة آخرها مشروع "E1" الذي يهدد بقطع أوصال القدس وعزلها عن محيطها الفلسطيني، يصبح التوثيق أكثر من مجرد جهد معرفي، بل فعل مقاومة مباشر، وسلاح في معركة الوعي.

لا يقتصر الصراع مع الاحتلال الإرائيلي على الأرض، بل يمتد إلى التاريخ والسردية، حيث تسعى الرواية الصهيونية إلى طمس الوجود الفلسطيني وإحلال رواية استعمارية مكانه، تشرعن الاحتلال وتعيد تشكيل الوعي وفق منظور الغزاة. هنا، يصبح التوثيق أداة استراتيجية، تحفظ الذاكرة وتثبت الحق، وتواجه محاولات التزييف والاقتلاع، وتعيد للإنسان الفلسطيني صوته وموقعه في الحكاية.

وثيقة وسردية وطنية

في هذا الإطار، يشكل كتاب "مسيرة النضال الشعبي في القدس العاصمة (1917–2025)" للدكتورة نائلة الوعري، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، مرجعا تحليليا وتوثيقيا يعيد الاعتبار للبعد الشعبي في مسيرة التحرر، ويقدم القدس كحاضنة للمقاومة المتجددة.

يمتد العمل على أكثر من مئة عام من النضال، ويعتمد على أرشيف محلي وميداني، وشهادات حية، وتحليل اجتماعي ومكاني لخرائط المواجهة. يدمج بين التأريخ والتحليل في رسم صورة بانورامية لنضال الإنسان المقدسي، ويثبت أن هذا الحراك لم يكن هامشيا، بل في صلب المشروع الوطني الفلسطيني.

نقلة نوعية في كتابة تاريخ المقاومة

يأتي هذا العمل كجزء من مشروع بحثي طويل تبنته د. نائلة الوعري، الباحثة والمؤرخة المقدسية، التي كرست مسيرتها العلمية لتوثيق تاريخ المدينة، ونقد الرواية الصهيونية، وتثبيت مركزية القدس في الوعي الفلسطيني.

ترى الوعري أن النضال الشعبي بما فيه من إضرابات واعتصامات ومبادرات ميدانية وثقافية ودينية ليس أقل شأنا من الكفاح المسلح، بل يتميز بقدرته على الاستمرارية والتجدد وتوسيع قاعدة المشاركة، ما يجعله نمطا فاعلا للمقاومة في ظل اختلال موازين القوى.

يركز الكتاب في فصله الأول على قراءة النضال الشعبي من خلال الجغرافيا، من البلدة القديمة إلى سلوان والعيسوية والشيخ جراح، حيث تتحول الأحياء المقدسية إلى ساحات مواجهة يومية.

يوضح كيف أن المكان لم يكن مجرد مسرح للأحداث، بل عنصرا فاعلا في تشكيل الهوية النضالية، بما يحمله من رمزية وقداسة وارتباط بالحياة اليومية.

أما الفصل الثاني، فيحلل الركائز التي قام عليها هذا النضال، مثل الوعي التاريخي، والشبكات الاجتماعية، ودور العلماء والمثقفين، والشعور العميق بالمسؤولية تجاه المدينة، مما يفسر صلابة الحراك وامتداده رغم القمع والعزل.

من الفعل الاحتجاجي إلى المشروع الوطني

يفكك الفصل الثالث من الكتاب المفاهيم المرتبطة بالحراك الشعبي، مشيرا إلى تحوله من ردود فعل ظرفية إلى تعبير عن رؤية وطنية شاملة، ترى في القدس مركزا للهوية والكرامة والسيادة. هذا الحراك، بحسب الوعري، لم يكن معزولًا، بل دائمًا في تفاعل مع السياق الفلسطيني العام، ومتجذر في صيرورة نضالية ممتدة.

وفي الفصل الرابع، توثق المؤلفة تطور أدوات المقاومة السلمية، من الإضرابات العامة والعصيان المدني، إلى حملات الإعلام الرقمي وسلاسل الصلاة والفعاليات الثقافية، وتوضح كيف أعادت هذه الأدوات تشكيل لغة المواجهة وأساليبها، رغم تصاعد أدوات القمع الإسرائيلية.

يركز الفصل الخامس على الدور الجماهيري الواسع في هذا النضال، خاصة دور المرأة المقدسية التي كانت حاضرة بقوة في الميدان والإعلام والدعم المجتمعي، إضافة إلى حضور لافت للشباب وطلبة الجامعات الذين جسدوا حالة وعي ومبادرة.

أما الفصل السادس، فيرصد دور المؤسسات الدينية والمدنية في احتضان الحراك، من المدارس والمساجد إلى الكنائس والمستشفيات، التي حملت عبء المواجهة في ظل غياب مؤسسات السلطة، وأسهمت في الحفاظ على الروح الوطنية في وجه محاولات تفكيك المجتمع المقدسي.

من الثورة الكبرى إلى طوفان الأقصى

يختم الكتاب بعدد من الدراسات التطبيقية التي ترصد لحظات مفصلية في الحراك المقدسي، من الثورة الكبرى عام 1936، إلى "انتفاضة الحجارة" 1987، و"انتفاضة الأقصى" 2000، مرورا بـ "معركة باب الأسباط"، و"انتفاضة باب العامود"، و"هبة الشيخ جراح"، وصولا إلى "طوفان الأقصى" عام 2023، باعتباره ذروة جديدة في الالتفاف الشعبي حول القدس والمقدسات، وتجسيدا لحالة الارتباط بين الضفة وغزة والداخل المحتل.

تظهر هذه الحالات قدرة النضال الشعبي على إعادة إنتاج نفسه، وفرض إيقاعه الميداني، رغم التحديات الداخلية والتخلي الرسمي العربي والدولي.

سلاح ضد النسيان

وفي حديثها عن الدوافع وراء هذا العمل، تؤكد الوعري لصحيفة "فلسطين" أن التوثيق لم يكن يوما خيارا أكاديميًا فحسب، بل "رسالة معرفية في وجه محاولات الإلغاء والتهويد، ووفاء لمدينتي الأولى، التي وإن غادرتها طفلة، لم تغادرني يوما".

وترى أن النضال الشعبي الفلسطيني يمثل مسارا مختلفا عن الكفاح المسلح، لكنه لا يقل أهمية أو عمقا، بل يمتاز بشموليته وتنوع أدواته وقدرته على الاستمرار رغم كل أشكال القمع.

وتضيف: "ما لم يوثق ينسى، والتاريخ الذي لا يُكتب يُزيف. من هنا، جاءت هذه الدراسة لتعيد الاعتبار لدور الناس العاديين في صناعة التاريخ، وتُرسخ الوعي بأن الرواية الفلسطينية لا تُختزل في النخبة أو السلطة، بل في وعي الشعب وإرادته".

وتختم بالقول: "كما رحل الغزاة والمستعمرون عبر التاريخ، فإن هذا الاحتلال إلى زوال. سيبقى النضال الشعبي صامدا، وستبقى القدس عنوانا للكرامة والحرية، مهما طال الزمن".







المصدر / فلسطين أون لاين