الأستاذ الدكتور أمجد صبحي الفاهوم
في كل أمة، يُبنى مستقبلها على أساس الكفاءة والإنجاز، لا على المجاملة وتبادل المقاعد. لكن حين تصبح المواقع العامة حكراً على دائرة مغلقة من الأصحاب والمعارف، ينهار المعنى الحقيقي للمؤسسة، ويتحول المنصب إلى غاية في ذاته لا وسيلة لخدمة الناس. هذه الظاهرة، التي نراها في مؤسساتنا، تقتل روح الإصلاح وتضع الحواجز أمام التحديث. فلا أحد ينهض بدولة عبر من اعتاد الجلوس على الكرسي دون أن يقدّم شيئاً، ومن وصل إلى موقعه بحكم التدرج الشكلي لا بحكم الإنجاز. وكما كتب المفكر الفرنسي ألبير كامو: “أسوأ أنواع الفساد أن يتعود المرء على ما لا يستحقه”.
المشكلة ليست فقط في شغل المقاعد، بل في الذهنية التي ترى في السلطة امتيازاً دائماً، وليست مسؤولية عابرة لخدمة وطن. وعندما تتحول القيادة إلى مسرح لتبادل الأدوار بين نفس الوجوه، فإن النتيجة تكون تعطيل أي مبادرة إصلاحية جادة. وهنا يحضر قول الشاعر طاغور: “من يغلق باباً أمام التغيير، يفتح أبواباً للانهيار”. فالإصلاح لا يمكن أن يكون مجرد شعارات تُرفع أمام الكاميرات ثم تُدفن في أدراج البيروقراطية.
التحدي الحقيقي أن هناك من يحاول باستمرار إقصاء الكفاءات الصادقة، إما بالتقليل من إنجازاتهم أو بتشويه صورتهم، حتى يبدو النجاح نفسه موضع شك. وهذه ممارسة خطيرة لأنها تقلب الموازين وتجعل المجتمع يرى أن التفوق ليس مدخلاً للتقدير، بل أحياناً سبباً للعداء. وكما قال الروائي جورج أورويل: “في زمن الخداع، قول الحقيقة عمل ثوري”. فالواقع اليوم يجعل من النزاهة والجدية عبئاً على صاحبها بدلاً من أن تكون سبباً للتكريم.
ولعل أخطر ما يترتب على هذه الممارسات هو اهتزاز ثقة المواطن بالمؤسسات. حين يرى الناس أن النتائج مقررة سلفاً، وأن التغيير مجرد تدوير في المقاعد، يفقدون الأمل في المشاركة والإصلاح. ويفسر هذا العزوف الواسع عن صناديق الاقتراع، وكثرة الأوراق البيضاء التي أصبحت تعبيراً صامتاً عن فقدان الثقة. إن ما يعيشه المواطن اليوم يقترب مما وصفه المفكر زيغمونت باومان حين تحدث عن “الحداثة السائلة”، حيث تتبدل الوجوه والشعارات بسرعة، لكن الجوهر يبقى ساكناً لا يتحرك.
إن استمرار هذه الحلقة يفرغ الدولة من طاقاتها الحقيقية. فلا يمكن بناء مؤسسات قوية على أساس المجاملة، ولا يمكن أن ينجح إصلاح حقيقي بينما من يقود المرحلة لا يرى فيها إلا فرصة لمراكمة النفوذ. المطلوب اليوم ليس تبادل الأشخاص في المواقع، بل إعادة تعريف من هو الأجدر بالقيادة. النخب الحقيقية هي التي تترك أثراً نزيهاً في خدمة الناس، لا من تعود على الكرسي حتى أصبح وجوده شكلياً. وكما قال المفكر الأميركي رالف والدو إيمرسون: “القائد هو من يزرع الثقة في الناس بأنهم قادرون على الإنجاز، لا من يجعلهم ينتظرون إنجازه الشخصي”.
الأردن يمتلك رؤية إصلاحية طموحة يقودها الملك، رؤية واضحة نحو اقتصاد إنتاجي ومشاركة سياسية عادلة وعدالة اجتماعية، لكن هذه الرؤية تحتاج إلى شجاعة في التنفيذ وإلى أشخاص يؤمنون بها عملياً. فالقيم لا تُرسخ بالتصريحات، بل بالأفعال. ومن هنا فإن إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع تبدأ من إعادة الاعتبار للكفاءة والإنجاز، وكسر احتكار المقاعد، وربط المسؤولية بالمساءلة، فلا مناصب دائمة ولا امتيازات بلا إنتاج.
لقد آن الأوان لأن تدرك النخب أن التاريخ لا يرحم من أهدر الفرص، وأن الشعوب قد تصبر لكنها لا تنسى. الدولة الحديثة لا تُبنى بتدوير المقاعد بل ببناء إنجازات، ولا تنهض بمجاملة أصحاب النفوذ بل بالاعتماد على من يملك علماً وخبرة ونزاهة. وكما كتب ميلان كونديرا: “الصراع الحقيقي في الحياة ليس بين الخير والشر، بل بين الذاكرة والنسيان”. فإذا أرادت هذه النخب أن تُذكر بخير، فعليها أن تترك أثراً صادقاً في ذاكرة الوطن، لا أن تُدفن مع سجل المقاعد التي تبادلتها عبر السنين.