يا عُمّار الأرض وعمالها، بارك الله سواعدكم ..

mainThumb

01-05-2025 07:44 PM

printIcon


بقلم: يونس الكفرعيني
في كل زاوية من زوايا هذا العالم، هناك يد تعمل، وعرق يُسكب، ونبضُ قلبٍ يُصرّ على البذل والعطاء. إنهم العمال، أبناء الشمس والأرض، الذين لا تعرف أجسادهم الكلل، ولا تهاب أرواحهم المشقة. هم الذين يصنعون الحياة من رحم المعاناة، ويبنون المجد على أنقاض التعب، ويزرعون الأمل في كل ذرة تراب.

في يومهم هذا، لا نُحيي فقط ذكرى تاريخية، بل نُحيي جوهرًا إنسانيًا خالدًا: قيمة العمل. هو ليس مجرد وسيلة للعيش، بل رسالة حياة، وسِمة كرامة، وسبيلٌ إلى تحقيق الذات. العامل، أيًّا كان مجاله، هو حجر الأساس في صرح الحضارة. من يطرق الحديد، إلى من يعلّم الأجيال، من يحرث الأرض، إلى من يعالج المرضى، جميعهم يشتركون في قدسية العطاء.

يوم العمال ليس عطلة فقط، بل هو وقفة إجلال لكل يدٍ تُمسك بمعول، أو قلم، أو مشرط، أو فرشاة. هو يوم نقف فيه لنقول: بارك الله فيكم، في سواعدكم، في صبركم، في جهودكم التي كثيرًا ما تمرّ خفية، لكنها تترك أثرًا عظيمًا في الحياة.

فيا أيها العامل، يا من تسكن قلب كل أمة، اعلم أن لك في كل شق جدار حكاية، وفي كل نبتة خضراء أثر، وفي كل بيت مأهول بصمة. اعلم أن تعبك لا يضيع، وأن الله يرى سعيك، والمجتمع بحاجة إليك، والتاريخ يكتب اسمك.

يعود أصل الاحتفال بيوم العمال إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما اشتدت المطالبات بحقوق العمال في الولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل خاص في شيكاغو، حيث اندلعت مظاهرات تطالب بتحديد ساعات العمل إلى ثماني ساعات يوميًا بدلًا من استغلالهم لساعات طويلة منهكة. واجه العمال قمعًا عنيفًا، وسُجِن عدد كبير منهم، واستُشهِد آخرون، لكنّ الشرارة قد أُطلقت.

وفي عام 1889، أعلن المؤتمر الدولي الثاني للأممية الاشتراكية، في باريس، يوم الأول من مايو يومًا عالميًا للعمال، تخليدًا لتضحياتهم. ومنذ ذلك الوقت، أصبح هذا اليوم رمزًا عالميًا للتضامن مع الكادحين، وموعدًا سنويًا لتجديد العهد مع قيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

أما في الوطن العربي، فقد بدأت الدول تباعًا بتخصيص هذا اليوم عطلة رسمية، تقديرًا لجهود الملايين من العمال الذين أسهموا في نهضة أوطانهم. إنه ليس فقط يومًا للراحة، بل يوم للانتباه: أن وراء كل تطوّر وجوهًا تعرّقَت، وأيادي سُمرت تحت الشمس، وأرواحًا نذرت نفسها للخير العام.

يوم العمال يوم من لا صوت لهم إلا صوت ضمائرهم، ومن لا يرفعون الرايات، بل يرفعون الأوطان بأكتافهم. إن أهميته تكمن في كونه تذكيرًا بأن الاقتصاد لا يبنيه رأس المال وحده، بل اليد العاملة، وأن المجتمعات لا تنهض إلا حين تعترف بفضل من يُدير عجلة الحياة كل يوم.

تأمل في مدينتك، في طرقاتها الممهدة، ومبانيها الشاهقة، ومزارعها الخضراء، ومصانعها المنتجة، ومدارسها المضيئة... كل ذلك هو نتاج سواعد العمال. لا تكاد زاوية من زوايا الحياة تخلو من لمستهم.

في مجال البناء، هم الذين يحوّلون الخرسانة والحديد إلى مساكن آمنة، ومدارس جميلة، ومستشفيات تنبض بالأمل. في الزراعة، هم من يزرعون القمح بقلوب مطمئنة، وينتظرون الحصاد بصبر الفلاحين العارفين بسُنن الأرض والسماء. في الصناعة، يوقّتون حياتهم على صوت الآلات، ويضمنون دوران خطوط الإنتاج، مهما كانت الظروف.

وفي قطاع الصحة، هناك عامل النظافة الذي لا يراه أحد، لكنه أوّل خط دفاع ضد العدوى، وفي التعليم هناك الإداري والفني والسائق والحارس، الذين بدورهم يشاركون في بناء بيئة آمنة للتعلّم.

الأمثلة لا تنتهي. تخيّل مثلاً عاملاً بسيطًا في محطة وقود، لا يعرفه أحد، لكنه يوميًا يساعد مئات السيارات في إكمال رحلتها. أو عاملة في مصنع نسيج، تغزل بخيوطها قماشًا سيلبس طفلاً في مكان بعيد. هذه التفاصيل الصغيرة، المغمورة، هي التي تصنع الحياة.

كم من عاملٍ طوافه الليل ولم يعرف الراحة، فقط ليضمن قوت أطفاله؟ وكم من عاملةٍ حملت على كتفيها البيت والمصنع معًا؟ قصص الكفاح لا تُروى في الإعلام، لكنها محفورة على جدران البيوت ودفاتر القلوب.

العمل في ثقافتنا ليس مجرد مهنة، بل عبادة. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده."
وقد قرن الإسلام بين الإيمان والعمل الصالح، فجعلهما توأمين لا يفترقان.

وفي القرآن الكريم، نقرأ:
"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"
(التوبة: 105)،
دلالة على أن الله يراقب العمل، ويجزي عليه، وأنه ليس هناك عمل تافه أو بلا قيمة.

كما حثت السنة على الإتقان، فقال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه."
وهذه دعوة لأن نرى في كل عمل بصمة إلهية من الجمال، وأن نُخلص فيه كما لو كان عبادة.

وقد عمل الأنبياء بأنفسهم؛ فنوح كان نجارًا، وموسى راعيًا، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم كان تاجرًا، ثم راعيًا، ثم بنّاءً شارك في بناء المسجد. بهذا كان العمل شرفًا لا يُعيب، بل يعلو بصاحبه.

رغم كل هذا الجمال، إلا أن الواقع لا يخلو من التحديات الصعبة التي يواجهها العمال حول العالم، وبالأخص في الدول النامية. فمن بين أبرز هذه التحديات:

ظروف العمل القاسية: حيث يضطر بعض العمال للعمل في بيئات خطرة أو تحت درجات حرارة قاسية، دون وسائل حماية كافية.

الأجور المتدنية: كثيرون يعملون بأجور لا تكفي لسد احتياجاتهم الأساسية، ما يجعلهم في دوامة من الفقر رغم عملهم الدؤوب.

غياب التأمين الصحي والضمان الاجتماعي: ما يجعلهم عرضة لأزمات مفاجئة تفقدهم القدرة على العمل أو العلاج.

الاغتراب: ملايين العمال يتركون أوطانهم وأسرهم بحثًا عن فرصة عمل، فيعيشون بعيدين عن دفء العائلة وغالبًا في عزلة اجتماعية.

انتهاك الحقوق: مثل حجب الرواتب أو تأخيرها، أو الفصل التعسفي، أو العمل دون عقود رسمية.

هذه التحديات تتطلب تضافرًا من الحكومات والمؤسسات والمجتمع المدني لحماية العمال وتمكينهم من العيش الكريم.

أيها العامل النبيل، يا من تمشي إلى عملك كل صباح كأنك في مهمة مقدسة، اعلم أن تعبك محفوظ، وجهدك مشهود، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.

في هذا اليوم، نرفع لك القبعة، ونضع أكاليل الورد على جبينك، ونقول لك:
شكرًا لأنك لم تيأس، شكرًا لأنك لم تستسلم، شكرًا لأنك ما زلت تؤمن أن الغد أجمل.

نقول للمجتمع: لا تنظر إلى العامل من لباسه، بل من عطائه. ولا تقيسه بلغة المال، بل بلغة الأثر. فكم من عامل فقير أغنى العالم بعمله، وكم من ثري لم يترك أثرًا يُذكر.

نقول لأصحاب القرار: كرموا العمال، لا بالشعارات، بل بالتشريعات. وفّروا لهم بيئات آمنة، وأجورًا عادلة، وتأمينًا شاملاً، لأنهم عماد الأوطان.

يا عُمّار الأرض، ويا من تشهد لكم الجدران، والسقوف، والطرقات، والمزارع، والمصانع... بارك الله سواعدكم، وجزاكم عن الأمة خير الجزاء.

استمروا في العطاء، فلكل يدٍ عاملة نور خاص، يضيء ولو في العتمة. لا تيأسوا من الواقع، بل اصنعوا المستقبل. واعلموا أن العمل شرف، والاتقان كرامة، والإخلاص طريق إلى المجد.

في هذا اليوم، نكتب بأقلامنا ما تنقشونه أنتم بأيديكم: تاريخًا حيًّا من الكفاح والإنجاز. وكلما نظرنا إلى وطنٍ يتقدّم، نعلم أن في الخلف يدًا عاملة تستحق أن تُقبّل.

بارك الله فيكم، في قلوبكم النقية، في أحلامكم المتعبة، وفي جباهكم العالية. وكل عام وأنتم بخير، أنتم من يمنح الأيام معناها، والبلاد نهضتها، والحياة روحها.