الدفن "ممنوع" أيضًا .. "العالول" يفجع بابنته بلا وداع

mainThumb
الدفن "ممنوع" أيضًا.. "العالول" يفجع بابنته بلا وداع

20-05-2025 10:01 AM

printIcon

أخبار اليوم - "وين نهى؟" بهذا السؤال، الذي سقط كالصاعقة، بدأ الغزي شحدة العالول يدرك حجم الفقد.

نزح الرجل مع عائلته قسرا على دفعات تحت نيران القصف الإسرائيلي المكثف على بيت لاهيا، الجمعة، وتمكن معظمهم من الوصول إلى محيط المستشفى الإندونيسي، لكن ثلاثة من أبنائه كانوا يهمون باللحاق بهم، بينهم نهى، الطالبة في كلية الهندسة.

رد إخوتها عليه: "أُصيبت... بدها إسعاف". سقطت قنبلة إسرائيلية عليها بينما كانت تمر في أرض زراعية تعرف بـ"أرض مسعود". صرخت، ثم خفت صوتها، ولم تتحرك.

ومنذ تلك اللحظة، بدأت حكاية أب لا يستطيع حتى أن يودع ابنته، ولا أن يضع يده على جبينها.

"ليل الجمعة الماضي، كان ثقيلا على غزة، وخاصة على تقاطع شارع السكة مع المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا حيث نقطن"، يقول العالول لصحيفة "فلسطين" بكلمات مدفوعة بالأسى.

كانت المنطقة تتعرض لقصف عنيف من الطائرات والمدفعية الإسرائيلية، ازدادت حدته مع بزوغ الصباح. بين البيوت المتساقطة والطرقات المهجورة، وجد العالول نفسه مجبرا على النزوح مع أسرته.

كأن وجعًا واحدًا لا يكفيه. وسط طريق محفوفة بالمخاطر، تلقى العالول "الضربة" مرتين: نزوح قسري تحت النيران، وخبر جاءه من حيث لا يعلم عن استشهاد ابنته بالقنبلة.

حاول الإخوة الالتفاف والعودة إليها، لكن كل محاولة كانت تقابل بقصف إسرائيلي أعنف. السماء كانت تغصّ بمسيّرات "كواد كابتر"، والطائرات الحربية لا تفارق الأجواء. المكان تحول إلى منطقة موت مفتوح.

"سألنا الإسعاف عن إمكانية التحرك... قالوا الوضع مستحيل". حتى طواقم الإنقاذ لم يتح لها الاقتراب. القذائف صارت تصل المستشفى ذاته، ففر الناس إلى داخله، يطلبون الحياة أو ما يشبهها.

فقد العالول أي حيلة وغادر المنطقة مع 14 فردا من العائلة: "أجبرنا على أن نتركها هناك... شيء ما بيوصف، أنك تترك بنتك على الأرض، ولا تقدر حتى تحط يدك عليها".

ظن العالول أن الأيام القادمة قد تحمل له فرصة دفن ابنته، أو حتى إشعار إنساني من أحد. لكن مع استمرار الكثافة النارية، لا يزال يصطدم بالعجز عن الوصول إليها.

"كلمنا الهلال الأحمر... قالوا: لو كانت جريحة نحاول، أما شهيدة لا. لا تفكروا حتى تقتربوا"، يتابع سرد وجعه.

في اليوم الثاني، عرف من اثنين لم ينزحا من المنطقة بعد، أنهما رأيا جثمانها، غطياه برداء بسيط، ثم فرا مجددا تحت وابل النار.

في غمرة الحيرة والحزن، سألهما: "في طريقة نجيبها؟ فأجابا: مستحيل. الطائرات ترصد كل حركة، تقذف أي شيء يتحرك".

ثلاثة أيام، وجسد ابنته يعلوه الغبار والقهر، وهو لا يملك إلا أن يراها في خياله، تتوسد الأرض وحدها دون أن يمكنه الاحتلال حتى من دفنها لئلا تنهش جثمانها الكلاب. لم يودعها، أو يلمس جبينها، ولم يهمس لها كما كان يفعل في صغرها.

حالها في ذلك، كبقية الشهداء الغزيين الذين مارس الاحتلال الجرائم ضدهم في حياتهم وبعد ارتقائهم، وقد تجاوز عددهم الـ50 ألف شهيد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

"التميز بالشهادة"

يطرق حديث نهى، الشاعرة الحنونة، قلب أبيها، ولا يزال يتردد في أذنيه. ولطالما أبدت تأثرها بنجاحه فهو شاعر يحمل في قلبه 23 ديوانا، ومؤلف لـ20 كتاب، ومحاضر وخطيب في المساجد.

كانت تقول له: "أريد أن أكون متميزة بين أقراني" لكنها استشهدت دون أن تحتضن أحلامها، وها هو القدر يمنحها التميز بالشهادة، كما يقول والدها مواسيا نفسه.

ولم تكن أول فقيدة في أسرة العالول. قبلها، في نوفمبر 2023 وضمن حرب الإبادة الجماعية، استشهدت ابنته مؤتة، نازحة أيضا، حين قصف الاحتلال المبنى الذي لجأت إليه في منطقة الصحابة بغزة. استشهد معها ثلاثة من أبنائها، بينما نجا اثنان وابنة واحدة كانوا قد خرجوا لشحن هواتفهم حينها.

وإن لم يكن الحزن كافيا، فإن العالول يعيش وجعا آخر، إذ أسر الاحتلال أحد أبنائه خلال اقتحامه مستشفى كمال عدوان: "كان متزوجا ولديه أربعة أولاد... أخذوه من بيننا".

أما بيته في منطقة "المشروع" ببيت لاهيا، فقد دمره الاحتلال بالكامل، كما استهدف منزله الآخر الذي كان يقطن مع أبنائه وأحفاده طابقا شبه مدمر فيه بمنطقة تقاطع السكة مع "الإندونيسي". حتى محلاته التي كان يعمل فيها خبيرا في الأعشاب، أُبيدت، تماما ككل ما كان يبنيه.

وبات العالول الآن أسيرا للحزن، يئن من جرحين: أحدهما في الذاكرة، والآخر على التراب، لم يُدفن بعد.

المصدر / فلسطين أون لاين