أخبار اليوم - تحت شمس الثامن من أيار/ مايو الماضي، جلس الطفل سعيد أبو ريالة (12 عامًا) على الأرض أمام منزله في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يحيك ببطء خيوط شبكة صيد صغيرة، لا يمسكها بيده فقط، بل يثبتها بأصبع قدمه، مستعينًا بإبرة قديمة تركها له شقيقه الشهيد "سامي"؛ ليس تمرينًا على مهنة الصيد، بل محاولة لإبقاء الحلم حيًّا.
ويقول سعيد بصوت خافت: "أخوي سامي كان يحب يخيط الشباك، وحلم يصير صياد، ترك لي الشبكة والإبرة ألعب فيها وأتعلّم، وهي الآن صارت ذكرى".
"سامي"، الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، كان يقضي أوقاته بمحاكاة والده وأعمامه في حياكة شباك البحر، كما يقول والده أحمد أبو ريالة، الذي يجلس على مقربة من ابنه، يراقبه بعينين تغمرهما الدموع: "كان سامي يعتبر الشبكة لعبته، كان يقلّدنا ويفرح لما نعلّمه، بس الشبكة ضلّت ناقصة، زي عمره اللي ما اكتمل".
استُشهد سامي في 8 أيار/ مايو الماضي، في يوم ربيعي هادئ، عندما أطلقت زوارق حربية صاروخًا سقط على منزل مجاور لمنزل العائلة. الانفجار، الذي وقع في التاسعة صباحًا، مزّق صمت المخيم، وألقى شظاياه على منزل أبو ريالة.
ويقول الوالد أحمد: "كنت في الطابق الثاني، سمعت صوت انفجار قوي، وبعدها صراخ. ركضت، ولما نزلت شفت سامي ممدد، مغطى بالدم، وأخويا إبراهيم مصاب بجانبه".
ويضيف بحزن شديد لـ "فلسطين أون لاين": "كانت إصابات سامي قاتلة: شظايا في رقبته وصدره وساقه، فيما أُصيب عمّه بجراح خطيرة في البطن والرجلين".
أوجاع ممتدّة
ويستذكر الأب اللحظات الأخيرة قبل استشهاد سامي: "قبل بيومين صار يركض بكل طلب، كأنه مستعجل يعيش كل شيء بسرعة، طلب فلافل ولحمة معلبة، وأصر يأكل خبز سخن".
وفي صباح يوم استشهاده، استيقظ في السادسة صباحًا، وهو وقت أبكر من المعتاد، ذهب إلى جدّته وساعدها، ثم سلّم هواتف عمّاته لنقطة شحن الكهرباء، قائلًا: "أنا سلّمتهم، بس مش أنا اللي راح أرجّعهم، دوروا على حدا غيري". كلمات بدت أشبه برسالة وداع.
وتقول جدته الستينية: "كانت عمته تصنع الخبز في ذلك الصباح، قال لي: بدي أول رغيف، قلت له: أول رغيف إلك، بس ما لحق يأكله".
وتتابع: "كان سامي يجلس حينها قرب عمته وعمّه، يحاول اللعب رغم الدمار حوله. استخدمنا قطعة نايلون لسدّ جدار منزلنا المتضرر بفعل قصف سابق، وتلك القطعة نفسها لم تمنع الشظايا من اختراقها عندما سقط الصاروخ، لتخترق الأجساد وتترك الفاجعة".
وتُعدّ عائلة أبو ريالة من العائلات التي دفعت ثمن الحرب أكثر من مرة، فإلى جانب استشهاد سامي، لحق بجده عادل أبو ريالة، الذي ارتقى في نوفمبر 2023م بفعل قصف طال المنزل نفسه من الجهة الشمالية، كما سبقه عمّه توفيق، الذي استُشهد عام 2015 أثناء عمله في الصيد، بعد استهداف مباشر من زوارق حربية.
يقول الأب بحزن: "هدموا أحلامنا أكثر من مرة، ما ضل زاوية في البيت ما فيها وجع".
رحلة نزوح
مع بدء التصعيد في أكتوبر 2023، قررت العائلة، مثل آلاف العائلات الأخرى، النزوح، بحسب أبو ريالة. "تنقلنا بين مدارس وملاجئ مختلفة، بدءًا من مدرسة صلاح الدين التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في حي النصر غربي مدينة غزة، حيث واجهنا ممارسات قاسية من جيش الاحتلال الذي اقتحم المكان".
ويستذكر الأب المكلوم لحظة أثّرت فيه كثيرًا، قائلًا: "جمعونا في الساحة، وجردونا من ملابسنا، وابني سامي لما شافني هيك، ركض من يد أمه واحتضني، رغم أن الجندي كان ماسكه. كان يصيح: هذا أبوي، اتركوه! اتركوه!".
ويكمل: "بعد ساعات من التحقيق، طلب منا الجنود التوجه إلى جنوب القطاع. استجبنا، لكن ما لبثنا أن ابتعدنا عن مرأى جيش الاحتلال حتى عدنا غربًا، وانتقلنا إلى مدارس أخرى، ثم إلى بيتنا مجددًا بعد أن استُهدفت إحدى المدارس التي احتمينا بها".
ويمضي أبو ريالة بصوت ممزوج بالإصرار والتعب: "ما ضل مكان آمن، قررنا نرجع على بيتنا حتى لو مهدوم، على الأقل نكون بين جدران نعرفها".
لا يملك "سعيد" اليوم سوى الإبرة والشبكة وذاكرة أخيه، محاولًا أن يتقن الحياكة كما أراد "سامي" أن يتقنها، ويحاول أن يكون الصيّاد الذي يُكمل حلم شقيقه الشهيد.
وينظر الأب إلى ابنه ويقول: "يمكن الشبكة ما تصطاد سمك، بس سعيد بيخيط فيها الحنين... واللي بيتعلّق بالخيط، مش سمك، بل حكاية اسمها سامي".
فلسطين أون لاين