ابن سينا في زمنه يُسمى "مؤثرًا": من شوّه التأثير وحوّله إلى تفاهة ومؤثرين يقتلون الأجيال بمحتواهم الفارغ؟

mainThumb
ابن سينا في زمنه يُسمى "مؤثرًا": من شوّه التأثير وحوّله إلى تفاهة ومؤثرين يقتلون الأجيال بمحتواهم الفارغ؟

12-06-2025 05:05 PM

printIcon

أخبار اليوم – عواد الفالح - في الزمن الذي كان فيه التأثير يُقاس بعظمة الاكتشاف وعمق الفكرة ورقيّ العلم، كان يُطلق لقب "المؤثر" على عظماء مثل ابن سينا، الذي أسّس قواعد الطب الحديث، والرازي الذي ابتكر أدوات الجراحة، ونيوتن الذي غير فهمنا للعالم، وأينشتاين الذي قلب مفاهيم الزمان والمكان. كانوا مؤثرين لأنهم تركوا بصمات خالدة في تاريخ البشرية، لا لأنهم صعدوا على موجة أو تصدّروا قائمة مشاهدات.

اليوم، تغيّر المعنى. لم يعد التأثير يقاس بما يُغني العقل أو يُنهض بالمجتمعات، بل بما يُرضي خوارزميات التطبيقات، ويُلهب مشاعر المتابعين بلحظة ضحك أو إثارة أو جدل فارغ. لقب "المؤثر" أصبح يُمنح لكل من عرف كيف يثير "تريندًا" بلا مضمون، أو يراكم مشاهدات دون محتوى، أو يقدّم نصائح جوفاء عبر مقاطع لا تتجاوز 15 ثانية، أشبه بومضات بلا روح.

انحدار المعنى وموت القيمة

مشكلة هذا التحول لا تكمن فقط في المفردة، بل في الأثر الفعلي على المجتمعات، خاصة على جيل النشء. شباب اليوم يعرفون أسماء المؤثرين أكثر من أسماء العلماء والمفكرين. يتابعون من يعرض حياته الخاصة أمام الكاميرا، أو من يتقن السخرية و"التريندات"، ويعتبرونه قدوة. بينما تُترك الأسماء التي بنت الحضارة في الهامش، تُنسى في زحمة الضجيج.

تقول أم لأربعة أبناء: "أشعر أحيانًا أن ابني يحلم أن يصبح مؤثرًا فقط لأنه يرى من حوله يربح ويتصدر دون أن يتعلم أو يعمل. كل ما في ذهنه الآن: كيف أفتح قناة وأصير مشهور؟". ويضيف أحد المعلمين: "صرنا نعاني في الصفوف المدرسية من غياب النموذج الحقيقي. الطالب لا يريد أن يكون مهندسًا أو طبيبًا أو مخترعًا، بل مؤثرًا، ولا يُدرك أن التأثير الحقيقي ليس ضوء كاميرا، بل نور فكر".

مؤثرون يقتلون الأجيال... بالصمت أو بالضجيج

الخطورة لا تكمن في المحتوى الساخر أو الترفيهي فحسب، بل في ما بات يُقدّم على أنه "قيمة"، وهو في الحقيقة "فراغ قاتل". محتوى مشوّه، معلومات مغلوطة، نصائح موجهة للظهور لا للحياة، وتشويه ممنهج للمفاهيم الأخلاقية والثقافية وحتى الجمالية. هؤلاء لا يكتفون بتضييع الوقت، بل يقتلون الطموح، ويهدمون منظومة القيم، ويزرعون شعورًا زائفًا بأن النجاح لا يحتاج جهدًا أو علمًا أو أخلاقًا.

أين المجتمع؟ وأين الدولة؟

في هذا السياق، تبرز أسئلة مؤلمة: لماذا تراجع دور المدرسة في تشكيل الوعي؟ لماذا لم تواكب مؤسسات الإعلام الرسمية هذا الانفجار الرقمي بصناعة مؤثرين حقيقيين؟ وأين الرقابة المجتمعية على منصات تُقدّم للعالم أسوأ ما فينا على أنه صورة العصر؟

إن الأمر لم يعد مجرد "مشكلة ترفيه"، بل تحدٍ ثقافي وتربوي وأخلاقي، يتطلب من الجميع وقفة حقيقية. لا لإسكات الناس أو كتم حرية التعبير، بل لاستعادة القيمة من أيدي التافهين.

المطلوب: عودة المعنى إلى المعنى

إعادة الاعتبار لكلمة "مؤثر" تبدأ من إعادة تعريفها. المؤثر هو من يُلهم، من يُعلّم، من يُغيّر وعيًا، من يقدّم للناس ما يبني لا ما يهدم. ولا يمكن أن يكون من يتصدر الشاشة مؤثرًا فقط لأنه يملأ الفراغ بالضجيج.

نحن بحاجة لمؤثرين يشبهون ابن سينا في عطائهم، لا في شهرتهم. يشبهون الرازي في نفعهم، لا في ظهورهم. يشبهون من بنى حضارتنا، لا من يهدم عقول أبنائنا باسم الترند.

فهل نملك الشجاعة لنميّز بين من يُحدث فرقًا… ومن يُحدث فقط صوتًا؟