أخبار اليوم - محرر الشؤون السياسية - لم تعد الحرب على غزة مجرّد مواجهة عسكرية تقليدية بين مقاومة فلسطينية وجيش إسرائيلي، بل تحوّلت إلى صراع مركّب تُستخدم فيه أدوات غير تقليدية، تتجاوز القنابل والصواريخ لتصل إلى لقمة الخبز وشحنات الدواء. فحين تعجز إسرائيل عن اختراق الجبهة من الخارج، تلجأ لاختراقها من الداخل… لا عبر الجواسيس فقط، بل عبر من يصيرون – عن وعي أو دون وعي – شركاء في إدارة الحصار وتنفيذ أهدافه.
في هذه المعادلة القاتمة، يظهر اسم "ياسر أبو الشباب"، لا بوصفه شخصًا فقط، بل بوصفه رمزًا لتحوّل خطير في بنية الصراع. هو تاجر، أو لنقل "سمسار معونات"، يلعب دور الوسيط بين الاحتلال وشحنات الإغاثة، ويتحكم في مسارها، توقيتها، وتوزيعها، بل وثمنها. وحين يصبح التاجر أداة في يد المحتل، فإننا لا نكون إزاء فساد فردي بل أمام وظيفة استراتيجية تخدم هدفًا مركزيًا: تجويع غزة من الداخل، وإخضاعها ليس بالقصف، بل بالاحتكار.
الرجل ليس وحيدًا في هذا الدور، بل إلى جواره فئة من تُجّار الأزمات الذين كوّنوا لأنفسهم إمبراطوريات اقتصادية داخل القطاع على حساب المعاناة الجماعية. هؤلاء رفعوا أسعار السلع الأساسية إلى عشرات الأضعاف، وتلاعبوا باحتياجات الناس في ذروة الحرب. في ظل انقطاع الكهرباء، نقص المياه، وانهيار البنية التحتية، لم يترددوا في عرض السلع المنهوبة في الأسواق السوداء وكأنهم يبيعون "النجاة" لمن يملك، ويحجبونها عمن لا يملك.
ما يحدث ليس عشوائيًا، بل هو امتداد لهندسة الاحتلال الجديدة في إدارة قطاع غزة: أن يتحوّل الحصار من فعل مباشر إلى منظومة داخلية، تُدار بأيدٍ فلسطينية وتخدم الأمن الإسرائيلي دون أن تُطلق رصاصة واحدة. هذه ليست مجرد تجارة جشعة، بل هي شراكة غير معلنة في مشروع التفكيك الداخلي لغزة.
الأخطر في هذا المشهد أن الاحتلال بات يعرف تمامًا أن كسر إرادة الغزيّ لا يأتي من الجو، بل من الخبز. وأنه كلما استطاع خلق طبقة تتحكم باقتصاد الحرب، وتتاجر بالمساعدات، استطاع إضعاف المجتمع، وتمزيق لُحمته، وتحويل الغضب الشعبي من الخارج إلى الداخل.
هذه الحرب الناعمة، لا تحمل في ظاهرها دمارًا، لكنها تُدمّر قيمًا ومفاهيم. تجعل من اللص "ذكيًا"، ومن الجشع "نجاحًا اقتصاديًا"، وتُعيد تعريف الوطنية على مقاس من يربح من الحرب لا من يضحي فيها.
وفي الوقت الذي يصمد فيه الناس تحت القصف، ينهار بعضهم تحت إغراء الربح… وتصبح غزة التي قاومت الجيوش، مهددة اليوم بوكلاء الاحتلال من داخلها، ممن باعوا ضمائرهم في سوق المساعدات، وارتضوا أن يكونوا طرفًا في معركة ضد أهلهم.
فلا غرابة إذًا أن يمرّ بعض هؤلاء عبر المعابر الإسرائيلية بسهولة، ولا يُمسّون رغم ضجيج الحرب. فإسرائيل، ببساطة، تحتاج إليهم كما تحتاج إلى سلاحها… وربما أكثر.
إن ما يجري في غزة الآن يتطلب قراءة جذرية. فالمعركة لم تعد فقط بين المُحتل والمُقاوِم، بل بين مشروعين داخل المجتمع نفسه: مشروع يصمد، ويتقشف، ويتحمّل، ومشروع آخر يبني مجده على جوع الناس وانكسارهم.
وفي هذا السياق، فإن الصمت عن هؤلاء ليس حيادًا، بل تواطؤ. والتستر عليهم خيانة وطنية لا تقل خطرًا عن التجسس. فحين يُمنح هؤلاء شرعية إعلامية أو سياسية أو تجارية، فإننا نكون أمام خيانة ثلاثية: للوطن، للناس، ولأخلاق الصراع.
ختامًا، قد تنتصر غزة عسكريًا، لكن السؤال الحقيقي:
هل ستصمد اجتماعيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا في وجه هذا النوع الجديد من الحروب؟
هذا هو التحدي القادم… والعدو هذه المرة، لا يأتي من خلف الحدود، بل من داخل المعبر… يبتسم، يتحدث بالعربية، ويحمل تصريح مرور من الاحتلال.