الطَّريق إلى لقمة العيش .. "فخ الموت" يلاحق مجوَّعي غزّة

mainThumb
الطَّريق إلى لقمة العيش.. "فخ الموت" يلاحق مجوَّعي غزّة

18-06-2025 12:03 PM

printIcon

أخبار اليوم - على امتداد شوارع غزة المجوعة، وفي مناطق مفتوحة أصبحت تعرف باسم "أماكن انتظار شاحنات المساعدات"، يصطف آلاف المواطنين تحت لهيب الشمس، أو في العراء وتحت خطر القصف، لا طلبًا لمال أو رفاه، بل فقط من أجل كيس دقيق، أو علبة تونة، أو ربما قطعة خبز تسد جوع أطفالهم لأيام قليلة.

لكن هذا الانتظار الموجع لم يعد فقط مريرًا، بل بات قاتلًا أيضًا، بعد أن تحولت هذه المواقع إلى ساحات للمجازر المتكررة، جراء استهداف الاحتلال لتجمعات المدنيين العزل.


بعد 20 شهرا من الحرب والحصار الخانق، بات أبناء غزة يواجهون الموت جوعًا في منازلهم وخيامهم، أو الموت قصفًا أثناء محاولتهم الحصول على فتات المساعدات التي تمر ببطء شديد وتحت شروط مذلة يفرضها الاحتلال.
ومع اتساع دائرة الفقر والتجويع، أصبحت المغامرة بالذهاب إلى نقاط انتظار المساعدات، رغم خطورتها، طوق نجاة للكثيرين، وإن كان ثمنها الحياة.


في إحدى زوايا غزة يقف المواطن محمد ابو طبيخ (٣٧ عاما) وقد بدا التعب محفورًا في ملامحه. يقول بصوت خافت لـ "فلسطين أون لاين" وقد علاه القهر: "ذهبت أكثر من ست مرات إلى أماكن توزيع المساعدات... لم أحصل على شيء. مرتان بتّ ليلتي هناك في العراء أنتظر الشاحنات. كنت أظن أنني سأعود لأطفالي بشيء يسد رمقهم، لكن في كل مرة أعود خالي اليدين. نحن مجبرون على المخاطرة، فلا شيء في بيتي أطعمه لهم، حتى الخبز أصبح أمنية صعبة المنال".


قصة خالد تتكرر كثيرًا، وتتخذ وجوهًا جديدة في كل حي ومخيم، لكنها تحمل المأساة ذاتها. "عاصم الكحلوت" ثلاثيني من شمال القطاع ونزح قسرا إلى غرب غزة، يتحدث بحرقة عن رحلته الأخيرة: "قطعت مسافات طويلة سيرًا على الأقدام حتى وصلت إلى مكان يُقال إن شاحنات المساعدات ستتوقف فيه. وصلت متأخرًا، فوجدت الساحة خاوية، والشاحنات قد غادرت منذ دقائق... عدت لأولادي مكسور القلب، كانوا يحلمون بلقمة خبز، وكانت وجوههم ترتجف من الجوع. تمنيت حينها أن تنتهي الحرب، وأن يُرفع الحصار، وأن تعود حياتنا كما كانت، حتى لو بالحد الأدنى من الكرامة".


لكن ما يزيد من فداحة هذه المعاناة أن الاحتلال لا يكتفي بحصار الناس وتجويعهم، بل يحول تلك اللحظات التي ينتظرون فيها الشاحنات إلى مصائد موت حقيقية. فقد استشهد المئات، وأصيب المئات الآخرين، عندما قصفت طائرات الاحتلال، أو أطلقت النار على تجمعات المدنيين في مواقع المساعدات، كما حصل في "التحلية" بخان يونس، حيث ارتقى 59 شهيدًا في دقائق، وأصيب أكثر من 200، بينهم حالات خطيرة.


يقول "محمد صلاح"، وهو أب لخمسة أطفال، إن له قريبًا يعمل سائق شاحنة مساعدات، وأنه ينتظر اتصاله بفارغ الصبر. "كلما أخبرني أنه سيدخل، أعد حقيبتي الصغيرة وأستعد للذهاب إلى المكان الذي سيدخل منه، حتى لو كان في مناطق خطيرة. ليس لي خيار آخر. كنت قبل الحصار نذهب إلى مراكز التوزيع مرفوعي الرأس، أما اليوم فقد أصبحنا نركض خلف الشاحنات، نُذل ونُهان، وفي النهاية كثيرًا ما نعود بلا شيء".


المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"أونروا"، فيليب لازاريني، وصف الوضع في غزة بأنه يتدهور بلا هوادة، مؤكدًا أن مَن يقتلهم الاحتلال ليسوا سوى مدنيون جائعون يحاولون فقط الوصول إلى الطعام. وقال إن نظام توزيع المساعدات الحالي "مُميت"، وإن القيود المفروضة على دخول المواد الإغاثية، ونقص الوقود والمستلزمات الطبية، تُفاقم من الكارثة.


انتظار تحت القذائف
وفي ساعات الليل المتأخرة، وعتمة المكان التي لا يضيئها سوى وهج انفجار قذائف الاحتلال، يفترش الآلاف من الغزيين المجوعين الأرض عند مفترق التوام شمالي قطاع غزة.
رجال ونساء، شيوخ وأطفال، يبيتون بين ركام المنازل المدمرة، في انتظارٍ طويل قد لا ينتهي، أملاً في الحصول على كيس طحين يسد رمقهم في خضم مجاعةٍ تزداد شراسة مع كل يوم يمر.
في ذلك المكان، باتت مشاهد الانتظار الطويل على الأرصفة صورة يومية، فيما يخيم صوت الرصاص وقذائف الاحتلال كتحذير دائم بأن الخطر أقرب من الطحين.


وتستقبل مستشفيات غزة يوميًا عشرات الجرحى والشهداء، الذين ارتقوا برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء محاولتهم الوصول إلى شاحنات الطحين، في مشاهد أطلق عليها الغزيون اسم "مصائد الموت".
ووصل عدد الضحايا في مجموعات الجائعين، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى 300 شهيد و2650 مصابا و9 مفقودين خلال أيام.


رغم ذلك، لم تتوقف حشود الجوعى عن المجيء، بعدما أصبحت أخبار وصول المساعدات حديث الشارع، يتناقلها الناس همسًا وأملًا، غير آبهين بالمخاطر التي تحيط بهذا الطريق القصير نحو لقمة العيش، والطويل نحو المجهول.
من بين المنتظرين، كان أحمد الحصري من سكان حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، واحدًا من مئات الشبان الذين قضوا ليلتهم قرب مفترق التوام في انتظار شاحنات الطحين.


"ما عندي طحين من أسبوع، كل يوم بقول لنفسي يمكن اليوم يدخل الطحين"، يقول الحصري وهو رب لأسرة مكونة من أربعة أفراد.
ويضيف لـ "فلسطين أون لاين": "في بعض الأيام بشتغل وبقدر أشتري كيلو طحين بـ 55 شيكل، بس معظم الأيام ما بقدر أجيب حتى هذا الكيلو".
ينظر إلى الشارع الذي امتلأ بالمواطنين ويختم حديثه: "ما ضل فيّ صبر، بس مضطر للمجيء تحت قصف الذي لا يتوقف من أجل إطعام أطفالنا الجائعين".


غير بعيد، كان الشاب إياد شلحة يجلس على جانب رصيف بجوار بناية منهارة، في انتظار مرير. يقول شلحة، الذي نزح من مخيم جباليا قبل أشهر، يعيش حاليًا في خيمة في منطقة الزرقاء، شمالي غزة: "من أسبوعين ما ذقت طحين، وبشتريه من السوق السوداء بأسعار نار من اجل سد جوع اطفالي، وما في بديل للحصول على الطحين"، يروي بصوتٍ متعب.
ويضيف شلحة لـ "فلسطين أون لاين": "بنوزع اللقمة بين أفراد العيلة، بنعمل وجبة واحدة باليوم، الأطفال بيضلوا يطلبوا خبز، وأنا ما عندي شو أقولهم."


ويختم بحسرة: "أنا بعيش بين نارين.. نار الجوع ونار قهر الأب اللي مش قادر يوفر الطعام لأولاده"، مضيفاً: "نخرج وأرواحنا على أكفّنا، لكننا لا نملك أي خيار آخر لتوفير طعام لأسرنا".


الخبز صار حلما
أما المواطن أبو أحمد الدلو، من سكان مدينة غزة، فقد طغى الانهاك على ملامحه وهو يتحدث الظروف المعيشية الصعبة التي تعانيها أسرته الكبيرة التي يعيلها، والمكونة من 10 أفراد.
"كل يوم بسأل نفسي: شو بدي أطعمهم؟ لا طحين ولا رز ولا عدس. وإذا توفر شي، ثمنه نار. ما ضل معنا شي نأكله"، يقول أبو أحمد بحرقة.


ويضيف: "بنخبي الخبز عشان يكفي، وبنضحك عليهم إنه اليوم في مفاجأة.. وهي ما في غير الجوع."
يرفع يديه بحرقة ويقول: "العالم كله شايف كيف بنموت من أجل شوية طحين وسكاست..أطفالنا ماتوا من الجوع، وبنعيش على الأمل بس، أنه شاحنات الطحين تدخل ويمكن ما تدخل".
وفي الطرف الآخر من المكان، كانت السيدة الأربعينية أم إياد وهي أم لأربعة أطفال، تنتظر منذ ساعات طويلة.
"قالوا الطحين جاي، وجينا من ساعات المساء.. ست ساعات وأنا مستنية، وما إجاش شي"، تقول السيدة وهي تمسح دموعها.
وتتابع حديثها: "اللي بصير فينا مش بس مجاعة.. هذا تحطيم لإنسانيتنا. بنتي بتسألني ليش ما في خبز، وأنا ساكتة. إيش أجاوبها؟ إحنا بنموت موت بطيء".  


وتتابع بصوت خافت: "ما في شي يحميك.. لا بيت، لا طحين، لا دواء.. وحتى لما تيجي الشاحنة، ما بتكفي الكل. ناس بتنام وجوعها بأمعائها، وناس تموت وهي تنتظر".
ويعاني قطاع غزة من أزمة إنسانية وإغاثية كارثية جراء إغلاق سلطات الاحتلال المعابر منذ الثاني من مارس الماضي، مانعة دخول الغذاء والدواء والمساعدات والوقود، بينما يصعد جيشها من حدة الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق الفلسطينيين في القطاع المحاصر.
وبدعم أمريكي مطلق ترتكب قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر 2023، جرائم إبادة جماعية في غزة خلّفت أكثر من 184 ألف شهيد وجريح، إضافة إلى تدمير البنى التحتية في القطاع.

 فلسطين اون لاين