"التلفزيون الأردني .. هل يصحو؟"

mainThumb
د.عامر الصمادي

21-06-2025 07:17 PM

printIcon



د.عامر الصمادي
باحث واعلامي عمل بالتلفزيون الاردني لمدة 35 عاما

شهد الإعلام الأردني تحولات جذرية خلال العقود الماضية شملت كل انواع الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، و تراجع الدور التقليدي للاعلام الرسمي لصالح وسائل الإعلام الخاصة، والمنصات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي. ولم يعد التلفزيون الأردني يحظى بالمكانة التي كان يحتلها في الوعي الجمعي الأردني سابقا ، بل أصبح كثيرون يعتبرونه بعيدًا عن همومهم، وأقرب إلى صوت الحكومة منه إلى صوت الناس. هذا التراجع لا يعود فقط إلى تغير طبيعة الإعلام، بل إلى اختلالات داخلية تتعلق بالمحتوى، والإدارة، والهيكلية، والقدرة على المنافسة،فهل هذا تراجع حقيقي ام ان التلفزيون يظهر غير ما يبطن حسب نظرية (التقية) ليفاجأ العالم مرة واحدة بانتفاضة كبيرة تعيده الى وضعه السابق؟؟؟.
في هذا المقال، نحاول أن نستعرض أسباب هذا التراجع، ونقترح خطوات عملية لإعادة بناء التلفزيون الأردني الرسمي بوصفه مؤسسة إعلامية وطنية تُعبر عن الناس، وتخاطبهم بصدق، وتواكب تطورات العصر، ولابد لنا في البداية من التعريج على بعض اسباب هذا التراجع التي نعتقد انها كانت وما زالت سببا اساسيا في فقدانه لموقعه السابق وابتعاد المشاهدين عنه ،ومن هذه الاسباب:
1. الخطاب الرسمي الموجه
يُنظر للتلفزيون الأردني على انه ذراع إعلامية رسمية أكثر من كونه منبرًا عامًا، لانه يركّز دائما على بث نشاطات المسؤولين والترويج للخطاب الحكومي، والدفاع عن وجهة نظر الحكومة وقراراتها وهذا يتأتى من خلال سيطرة عدة جهات على قراره بل والتدخل بادق التفاصيل المهنية بسير عمله - والشواهد والاحداث لدي كثيرة – ويستطيع بعض المسؤولين ان يتسببوا بايقاف اي برنامج او استبعاد اي اعلامي ينتقدهم بعد ان كان سابقا يمكن ان يتسببوا بفصلهم،بل ويتدخلون في توزيع المذيعين والمذيعات على البرامج والاخبار،تبعا للواسطة والمحسوبية والعلاقات الشخصية ، مما أفقده التعددية والمصداقية لدى الجمهور وبالتالي ابتعدوا عنه .
2. ضعف المحتوى وتكراره
باتت برامج التلفزيون التقليدية، سواء الإخبارية أو الترفيهية، تفتقر إلى الجاذبية، كما تعاني من تكرار الضيوف والمواضيع واللغة الجامدة، اضافة الى فرض شخصيات من خارج التلفزيون غير مرغوبة اجتماعيا او مشهورة بآرائها المتطرفة او هناك رغبة لدى بعض الجهات بتلميع اصحابها ليتبؤوا مناصب عليا بالحكومة فيما بعد،وعادة ما يكونون غير مؤهلين او لا تنطبق عليهم المعايير المتعارف عليها بمقدمي البرامج والاخبار مما جعل كثيرًا من المشاهدين ينصرفون عنها لصالح قنوات ومنصات أكثر ديناميكية وجرأة.
3. غياب التفاعل مع قضايا الناس
في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وارتفاع نسب البطالة، وتعقيدات الحياة اليومية، يتوقع المواطن الأردني من إعلامه أن يكون شريكه في نقل همومه، لا أن ينشغل فقط بتغطية الاجتماعات الرسمية أو الاحتفالات.
4. التقادم التكنولوجي
لم يُواكب التلفزيون الأردني التطور السريع في صناعة الإعلام، سواء من حيث جودة البث، أو المنصات الرقمية، أو أدوات الإنتاج الحديثة، مما جعله متأخرًا مقارنة بمنافسيه المحليين والدوليين.
5. المنافسة الرقمية
جذبت منصات مثل "يوتيوب"و"تيك توك"و "فيسبوك" وغيرها، فئة واسعة من الشباب الذين وجدوا فيها محتوى أكثر تنوعًا وتفاعلًا وسرعة في نقل الأحداث.

ثانيًا: كيف يمكن استعادة الدور الإعلامي للتلفزيون الأردني؟
لكي يستعيد التلفزيون الأردني الرسمي دوره ومكانته، لا بد من مقاربة شاملة تجمع بين الإصلاح الداخلي والتطوير المؤسسي، والانفتاح على المجتمع، وتحرير السياسات التحريرية من القيود البيروقراطية. وفيما يلي أبرز الخطوات المقترحة:
1. تحرير السياسات التحريرية
أول خطوة نحو النهوض بالإعلام الرسمي هي استقلاليته اذ يجب أن يتمتع التلفزيون الأردني بهامش واسع من حرية اتخاذ القرار التحريري بعيدًا عن التدخل الحكومي المباشر و هذا لا يعني التحول إلى إعلام معارض، بل إلى إعلام مهني ومتوازن.
• إنشاء مجلس تحرير مستقل يضم صحفيين، وأكاديميين، وممثلين عن المجتمع المدني.
• تشريع قوانين تضمن استقلالية الإعلام الرسمي عن السلطة التنفيذية.
2. تحديث البنية التقنية والبث الرقمي
من غير الممكن استعادة الجمهور دون تطوير الوسائل التي يتم من خلالها تقديم المحتوى. يجب الانتقال من البث التقليدي إلى البث المتعدد المنصات.
• إطلاق تطبيق رقمي حديث يقدم بثًا مباشرًا ومحتوى حسب الطلب (on-demand).
• تحسين جودة الصورة والصوت، وتبنّي تقنيات التصوير الحديثة (4K، الواقع المعزز
• تعزيز الحضور على مواقع التواصل الاجتماعي بإنتاج محتوى مخصص لكل منصة.
• تعزيز الكوادر العاملة بهذا المجال باعداد اضافية وتدريبهم جيدا لمنافسة القنوات الاخرى وحسب آخر احصائية اطلعت عليها فان عدد العاملين بمؤسسة الاذاعة والتلفزيون في قسم السوشيال ميديا هم فقط ثلاثة اشخاص (لخدمة الاذاعات الخمسة وقناتي التلفزيون) بينما تجاوز الرقم في قناة رؤيا الاربعين شخصا .
3. إنتاج محتوى جذاب يعبر عن الناس
المحتوى هو القلب النابض لأي وسيلة إعلامية، وهو العامل الحاسم في جذب الجمهور أو نفوره.
• إنتاج برامج حوارية تتناول قضايا الناس بجرأة، وتستضيف أطيافًا متنوعة من المجتمع.
• تقديم قصص إنسانية من مختلف المحافظات، تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي الأردني.
• دعم الإنتاج الدرامي المحلي ليعود التلفزيون الأردني مركزًا للإبداع الفني.
4. الاستثمار بالكفاءات الإعلامية
لا يمكن لأي قناة أن تنهض دون طاقم مؤهل ومحفز.
• تدريب الكوادر الإعلامية على أدوات الإعلام الرقمي والتقنيات الحديثة.
• استقطاب كفاءات إعلامية أردنية شابة من داخل وخارج البلاد.
• تحسين بيئة العمل والرواتب لجذب أفضل المواهب.
5. إعادة بناء العلاقة مع الجمهور
الثقة لا تُفرض، بل تُبنى ويبدو ان القائمين على التلفزيون الاردني واصحاب القرار الفعليين ما زالوا لا يؤمنون بهذه المقولة لانهم ما زالوا يعيشون بعقلية الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي .
• تخصيص برامج مباشرة لتلقي أسئلة المواطنين والإجابة عنها بشفافية.
• تنظيم استبيانات دورية حقيقية وغير موجهة لمعرفة رأي الجمهور في المحتوى واحتياجاتهم وميولهم لتلبيتها وبالتالي تطوير ما يقدمه التلفزيون .
• تقديم اعتذارات واضحة عند الخطأ، والالتزام بالمعايير المهنية.
6. شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني
إشراك القطاع الخاص والمجتمع في تطوير المحتوى يفتح أبوابًا جديدة للإبداع والتمويل.
• إنتاج مشترك لبرامج شبابية وتعليمية وثقافية.
• دعم مبادرات إعلامية مجتمعية بالتعاون مع الجامعات والهيئات الثقافية.
ثالثًا: أمثلة يمكن الاستفادة منها
يمكن للتلفزيون الأردني الاستفادة من تجارب دول نجحت في تحديث إعلامها الرسمي، مثل:
• هيئة الإذاعة البريطانية (BBC): رغم أنها مؤسسة عامة، لكنها تحتفظ باستقلالية تحريرية عالية وتقدم محتوى متنوعًا بجودة عالية.
• التلفزيون السويدي (SVT): يمول من الضرائب لكنه يقدم تغطية موضوعية ومتعددة الآراء، ويُعتبر مصدرًا موثوقًا لمواطنيه.
و اخيرا لا يمكنني القول الا ان التلفزيون الأردني الرسمي لا يزال يمتلك فرصة لاستعادة دوره كمنصة وطنية جامعة إذا قرر أن يتحرر من قيود البيروقراطية، ويعيد بناء جسور الثقة مع الناس، ويتجه نحو المهنية والابتكارففي عصر الإعلام السريع والتفاعلي، لم يعد يكفي أن يكون التلفزيون موجودًا، بل عليه أن يكون مؤثرًا و صادقًا، وقريبًا من الناس. فالجمهور الأردني لا يبحث فقط عن المعلومة، بل عن منصة تحترم وعيه، وتعكس همومه، وتشاركه يومياته، وهذا هو جوهر الإعلام الحقيقي.