هذه سورية، تبلغنا مرة أخرى أن طريق السلم الوطني والتعايش في عالمنا العربي طويل وقد لا تكون له نهاية. حدث هذا من قبل للعراق الذي سقط في حضن المحاصصة الطائفية ولم يخرج منها منذ يوم الغزو الأميركي المشؤوم. لبنان في نفس الخندق منذ زمن بعيد، وكل محاولة لتحسين شروط المحاصصة الطائفية، تنتهي بالغرق في ويلاتها.
وقعت الأغلبية في سورية تحت ظلم حكم الأقلية، ولم تبدد الشعارات القومية هذا الواقع أبدا. وحين تحررت الأغلبية، وقفت هي الأخرى حائرة حيال الأقليات، ولم تتمكن حتى الآن من صياغة عقد اجتماعي مدني يضمن حقوق المواطنة للجميع.
الفشل مديد وطويل. ما نحن فيه ليس وليد عقود قليلة، إنما إرث ممتد لقرون، لم تحظ فيه هذه المنطقة من العالم بفرصة تشكيل هويتها الوطنية وصياغة نموذجها الخاص. كانت وما زالت أسيرة الثنائية القاتلة للقبيلة والدين، وما يقع بينهما من قيم طائفية ومذهبية وثقافة أكثر إخلاصا للماضي.
سبق أحداث الساحل السوري الدامية، قبل أشهر، ومواجهات السويداء الأخيرة، جولات من الصراع والمجازر على مدى عقود سابقة، تركت ندوبا لا تمحى في جسد سورية وشعبها.
يكفي أن نتذكر ما مر به السوريون، في السنوات القليلة الماضية، من صراع دام، كلفهم حياة مئات الآلاف من الضحايا، عدا عن هروب الملايين من بلادهم خوفا وقهرا.
لا يمكن لسورية أن تفيق في اليوم التالي لسقوط النظام، وكأنها ولدت من جديد. هذا ليس في تقاليدنا العربية أبدا. ثارات الماضي السحيق نحملها معنا جيلا بعد جيل، وعقدا وراء عقد. ومن يظن أن كتابة العهود والمواثيق والدساتير في عالمنا العربي تكفي لبداية عهد جديد، مخطئ حتما. في ذمتنا تاريخ حافل من أدبيات السلم والتعايش والمودة، ودروس مسهبة في الديمقراطية وحكم الشعوب، ولكم الوقائع، لتحكموا من خلالها على النتائج.
ستعاني سورية طويلا، ومثلها بلدان عربية، وقعت في فخ الفوضى والعبث الداخلي والصراع الطائفي المذهبي. أمراض لن تشفى منها أمتنا العربية قريبا. أكثر ما يمكن أن تفعله، تناول المسكنات المعروفة لاحتواء أعراضها، وتخفيف أوجاعها. هي تفاهمات وصفقات يتقاسم فيها زعماء الطوائف المناصب والمكاسب، وما يفيض يكون من نصيب التابعين.
إسرائيل فهمت مبكرا المعادلة، وعرفت كيف تستثمر فيها. تسللت إلى النسيج الاجتماعي، واحتكرت القدرة على التدخل والتحكم بمسار الأحداث. بعد السابع من أكتوبر كانت لحظتها التاريخية، لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها.
بسطت سيطرتها على سورية، ووضعت للبنانيين وصفة العلاج على طريقتها وإلا سيكون مصيرهم مثل غزة. العراق تحت نظرها، وإذا لم يلتزم بالنصائح، سيواجه أوقاتا صعبة.
إلى هذا الحد بلغ الانحطاط في عالمنا العربي. ليس هذا نتاج تفوق إسرائيل العسكري والدعم الأميركي المطلق، على أهمية ذلك، لكن عجز العقل العربي، وتخلفه عن مواكبة العصر، وضعنا في خانة الأمم المتخلفة.
من تابع مشاهد الغزوات والغارات المتبادلة في السويداء ومحيطها، يشعر وكأننا نعيش قبل قرنين أو أكثر من الزمان، أو نقرأ من كتاب عن تاريخ حروب القبائل العربية وغزواتها. وأعني هنا المنطق والخطاب والمظهر والشعارات التي تحرك المتحاربين.
كيف يمكن لمجتمعات على هذه الشاكلة أن تبني دولة يحكمها القانون، وتسودها الديمقراطية وقيم المواطنة. هذا ليس مظهرا خاصا بسورية، على شاكلته شعوب ومجتمعات عربية تغرق بالصراعات.
هل يتعين على المفكرين والمثقفين العرب أن يراجعوا سرديتهم وسقف تطلعاتهم كي لا نغرق بالأوهام أكثر ثم نصطدم بالواقع المرير؟