أ.د.بيتي السقرات/ الجامعة الأردنية
في ليلة من ليالي مكة الحالكة، كان رجل يختلي بنفسه بعيدًا عن ضجيج السوق وصخب القبائل، يصعد جبل النور ليبحث عن معنى أكبر من المال والجاه. هناك في غار حراء، وهو في الأربعين من عمره، انطلقت أولى كلمات الوحي: "اقرأ". لحظة فصلت بين زمنين، وجعلت من محمد بن عبد الله ﷺ نورًا يهدي أمة بأسرها، مصداقًا لوصفه تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
لقد اصطفاه الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، ويحمل رسالة تجمع بين تمام الوحي وكمال الأخلاق، فكان نبيًا يجمع بين الإنسان والقائد. قبل أن ينزل الوحي، عرفه قومه بالصادق الأمين، رجل لا يعرف الكذب ولا الخيانة، وإذا وعد وفى، وإذا ائتمنته قبيلة سلّمت إليه أغلى ما تملك. هذه الأمانة الأخلاقية هي التي أهّلته ليكون حامل الرسالة، وقد وصفه ربه بأنه رحمة للعالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
حين هاجر ﷺ إلى المدينة، وجد مجتمعًا متناحرًا بين مهاجرين تركوا أوطانهم وأنصار ما زالت بينهم رواسب العصبية القبلية. فجاءت عبقريته الإنسانية حين آخى بينهم، فصار الغريب أخًا للمضيف، وصار المال مشتركًا، والبيوت مفتوحة، وبنى أمة متماسكة من اختلافاتهم. لم يكن ذلك مجرد حل اجتماعي، بل تأسيسًا لروح الأمة التي وحدها الإيمان بعد أن فرقتها العصبية.
محمد ﷺ كان قائدًا في كل موقف، سواء في بدر حيث رفع يديه داعيًا مع الصحابة، أو في أحد حين ثبت رغم الجراح، أو عند فتح مكة حين قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، مظهرًا أعلى درجات الرحمة مع السيطرة على الموقف. لم يعرف التاريخ قائدًا يجمع بين الحزم واللين بهذا الاتزان، بين القوة والرحمة، القيادة والتواضع، الروحانية والواقعية.
كما كانت حكمته تظهر في تنظيم المجتمع المدني؛ فقد كتب الصحيفة التي أرست أسس التعايش بين المسلمين وغيرهم، وطبّق مبدأ الشورى حين قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ، فاستمع وناقش ولم يفرض رأيه قسرًا. وكان قدوته العملية جزءًا من قيادته؛ يجلس مع أصحابه، يبني المسجد، يشاركهم في الحياة اليومية، ليعلم أن القائد الحق هو من يعيش مع الناس ويقود بالقدوة لا بالسلطة فقط.
محمد ﷺ لم يكن مجرد شخصية تاريخية تُروى، بل رسالة حيّة تسكن تفاصيل حياتنا اليومية. في عالم اليوم الذي يفتقد القادة الحقيقيين، تبقى حكمته صالحة لكل زمان ومكان، حيث نحتاج أن نتعلم منه كيف يكون الإنسان قائدًا، والرحمة قوة، والصبر استراتيجية، والقدوة منهج حياة.
في المولد النبوي الشريف، نتذكر أن محمد ﷺ لم يأتِ ليغير عصره فقط، بل ليُقدّم للبشرية درسًا خالدًا في الأخلاق، القيادة، والوحدة. إنه الإنسان والقائد الذي صنع أمة، ورسالة تتجدد ما دام في الأرض بشر يبحثون عن النور.