هل ستعود فرنسا للنهج الديغولي؟

mainThumb

15-04-2023 01:32 PM

printIcon

تتسارع الأحداث التي تعصف المنظومة الدولية بشكل مفاجىء ومغاير على جميع المستويات سواء عالمياً أو اقليمياً لتُسجل حركة تفاعلات دولية نشطة، ومتغيرات جذرية غير مُسبقة وجديدة في سلوك الدول بشكل عام، ويتخللها مناورات واضحة، وحقيقية في تغيير ما هو نمطي وثابت في نهجها أهمها التحرر من التبعية الأمريكية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على معظم دول العالم منذ وقت طويل.

سأتوقف في هذا المقال عند تصريحات وموقف الرئيس الفرنسي ايمانيويل ماكرون المفاجئة والجديدة في ما يخص الصين، والحرب الروسية الأوكرانية، وسياسية الاتحاد الأوروبي .

الغريب والمثير للجدل إن هذه التصريحات لم نشهدها من صانع القرار الفرنسي على أقل تقدير منذ نهاية ولاية الرئيس الراحل جاك شيراك فلم نرى هذا التمرد أو الانقلاب على الحليف الأمريكي.
في خضم الصراعات الدولية وعودة الحرب الباردة الثانية، ومرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت روسيا الاتحادية صامدة ومستمرة بلا رجعة عن تحقيق أهدافها المرسومة، وبكل واقعية استطاعت أن تكون الأساس والمُحفز الرئيس للتحركات السياسية لمعظم الدول التي نتابعها ونراقب سلوكها الرافض لنظام القطبية الأحادية والتبعية، وأن يكون هناك نظام عالمي متعدد الأقطاب فيه توازن قوى وعدم التفرد في قيادة العالم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين راهن منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية على إحداث شرخ وانسحابات في منظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وعلى وقوع أزمة طاقة في فصل الشتاء نتيجة قطع امدادات الغاز الروسي، وعَّول كذلك على الرأي العام الأوروبي الممانع لمقاطعة روسيا والتدخل في مجريات الحرب الواقعة لكن الدول الأوروبية نتيجة الهيمنة الأمريكية عليها، وفقدانها الاستقلالية تم توريطها، وإقحامها في الحرب الروسية الأوكرانية، والتي بوجهة نظري لم ولن تحقق لها أي مصالح لا بل العكس تماماً أضرت بمصالحها ومصالح شعوب أوروبا نتيجة الدخول بأزمات متتالية ابتداءاً من الأزمة السورية مروراً لما حدث في ليبيا انتهاءاً بالحرب الروسية الأوكرانية.


جميع ذلك وغيره من الأسباب التي أثرت بشكل مباشر على سياسة الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم الجمهورية الفرنسية بشكل أساسي كونها الوريث السياسي والعالمي للقارة الأوروبية، ورأس حربة لمنظمة الاتحاد الأوروبي سياسياً ودبلوماسياً إن فرنسا بجمهوريتها الخامسة وتاريخها الثقافي وإرثها السياسي الاستعماري أصابها الضعف و الهوان وقَبِلت الدوران في فلك الولايات المتحدة الأمريكية فكانت النتيجة تحجيم دورها عالمياً برعاية أمريكية.
على الرغم من أن جميع المواقف متجانسة ومتناغمة في العديد من القضايا بين واشنطن وباريس لكن العلاقات الثنائية أخذت منحى منحدر يشوبه التوتر بسبب تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون ليصبح التضارب، وعدم التوافق بين الجانبين، وقلب الطاولة على هذا التحالف، وهاته التبعية بشكل مفاجئ، وجريء، وغير متوقع فهذه التصريحات والجرأة السياسية يرجع بها الوقت لما قام به الراحل الجنرال شارل ديغول فمن الصعب والمستحيل التطرق لفرنسا، وسياستها دون ذكر النهج الديغولي، وبصمة الجنرال شارل ديغول في بناء وتأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة بأسس ثابتة وركائز عالمية تتيح لفرنسا أن تتفرد وأن تكون قطب عالمي له مكانته وخصم لا يُستهان به.


لأن التاريخ يُعيد نفسه ما اشبه اليوم بالأمس فموقف فرنسا من النظام العالمي في الحرب الباردة الأولى يتكرر في الحرب الباردة الثانية، والذي يتمحور حول فكرة مفادها أن النظام العالمي القائم على القطبية الثنائية، وسيطرة القوتين، وتعدد الأقطاب يُحقق سلاماً واستقراراً بحيث لا تقوم علاقاتهما على حساب الدول الأخرى سواء بالصدام الذي يُهدد استقرارها أو بالوفاق الذي يُهدد استقلالها وحريتها؛ لذا تُعتبر تصريحات الرئيس الفرنسي وزيارته للصين دلالة على تحول في الموقف الفرنسي إزاء سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، ورفضها خلق بؤر نزاعات وأزمات جديدة في العالم، وضرورة دعم الصين، وايجاد مبادرة برعاية أوروبية صينية لإمكانية حل الحرب الروسية الأوكرانية هذه التحركات والقفزات الدبلوماسية التي سجلتها السياسة الفرنسية تنتمي وبشكل قطعي ومؤكد "للنهج الديغولي" الذي أصبح ضرورة ملحة لفرنسا وهي بأشد الحاجة إليه.


فعلى الرغم من أن الجنرال ديغول لم ينفِ مطلقاً انتماء فرنسا للمعسكر الغربي لكنه رفض الهيمنة الأمريكية، وتفرد عملها بسلطة التقرير في كل ما يتعلق بمنظمة حلف الشمال الأطلسي، وفي سعيها لتغيير مركزها فقد حاولت فرنسا في بداية الأمر إلى المطالبة بإدخال المتغيرات على اتخاذ القرار من خلال المذكرة التي وجهها الجنرال ديغول مباشرة بعد تسلمه السلطة إلى الرئيس الأمريكي ايزنهاور ولكن الولايات المتحدة لم تكن على استعداد لكي تُغير التحالف الغربي وتُعطي فرنسا وأوروبا دوراً متميزاً؛ لذلك كان قرار الرئيس ديغول في مارس عام ١٩٦٦ بالانسحاب من مجلس الوزراء في الحلف الأطلسي (الناتو)، ومن اللجنة العسكرية والتي تضم القوات المسلحة لدول الحلف هذا الانسحاب شكل ضربة دبلوماسية للولايات المتحدة الأمريكية ليكشف مدى حجم الخلافات بين الجانب الأمريكي والفرنسي في فترة تورط الأمريكيين بحرب فيتنام.
لقد آمن الرئيس ديغول أن السياسة الخارجية الفرنسية لبلد كفرنسا يجب أن تبقى هي السياسة الحقيقية التي ينبغي أن تُسخر كل الامكانيات الاقتصادية والثقافية لخدمتها، وتظل غاية لكل تحرك فعال ونشط للدولة.
بعد نهاية الحرب الباردة الأولى أصبح في فرنسا أصوات وتوجهات تُطالب بالعودة إلى القيادة العسكرية للحلفاء خصوصاً بعد نهاية ما يُسمى القطبية الثنائية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي)، وكذلك اهتمام فرنسا بالانضمام إلى جهود مكافحة الإرهاب بعد هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١، لكن بعد سنتين عادت فرنسا لتدخل في خلاف مع القيادة الأمريكية بعد رفض الرئيس الفرنسي جاك شيراك انذاك المشاركة في غزو العراق عام ٢٠٠٣، وفي عام ٢٠٠٧ مع قدوم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المتأثر بشكل كبير بشخصية جورج بوش، وبحزب المحافظين الأمريكيين أعلنت فرنسا عودتها لحلف شمال الأطلسي عام ٢٠٠٩ بعد انقطاع دام ٤٣ عاماً، وجرت الموافقة على قرار ساركوزي في الجميعة الوطنية ( البرلمان)، وكون القرار خرج عن إطار النهج الديغولي واجه انتقادات شديدة سواء من اليمين أو اليسار؛ لأن هذه الخطوة ستُفقد فرنسا استقلاليتها وتؤدي إلى اضعافها كون معارضة الجنرال ديغول كانت تتمركز حول هذه الأسباب في الماضي .


هذه التوترات والمخاوف عادت من جديد تزامناً مع تصاعد حِدية الحرب الباردة وصعود قوى جديدة تُنافس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون في بكين ورفضه تحركات واشنطن في تايوان، مع تأكيد على وجود قطب أوروبي مستقل .


في النهاية ومما لاشك فيه ان شعبية الرئيس الفرنسي ايمانيويل ماكرون تتهاوى تدريجياً نتيجة مشكلات داخلية حيث تشهد باريس مظاهرات واضطرابات ما زالت مستمرة بسبب سياسات الحكومة الحالية الغير منسجمة مع طموحات المواطن الفرنسي؛ فلاقت الرفض التام وكذلك خوف الرئيس الفرنسي على مستقبله السياسي من كون خصومه المرشحين يتنافسون ويرفضون السياسة الفرنسية المتماهية والتابعة للسياسة الأمريكية، وما آلت اليه فرنسا من تراجع سياسي وحضور غير مقنع على الساحة العالمية. فهل سنشهد مفاجآت من العيار الثقيل أبرزها انسحاب فرنسا من حلف الناتو على سبيل المخاطرة أو المقامرة السياسية كما فعلها وأقدم عليها الجنرال ديغول لنفس الأسباب والمسوغات التي نشهدها اليوم وتكون العودة حقيقية للنهج الديغولي لتُسجل المدرسة الماكرونية منهجاً جديداً يُدرس في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية والسياسة الخارجية الأوروبية .