أطفأت الحرب نور عينيه .. "أسامة" يتلمَّس الحياة من قلب العتمة

mainThumb
أطفأت الحرب نور عينيه... "أسامة" يتلمَّس الحياة من قلب العتمة

15-05-2025 10:08 AM

printIcon

أخبار اليوم - لا تأتي المآسي فرادى في غزة، بل تجتمع لتغرس أنيابها وأوجاعها في الجسد، وتُسكن مراراتها في الروح، فأحد هؤلاء الذين سقط عليهم ليل حرب الإبادة بكل ثقله، الشاب أسامة الجماصي، (28 عامًا)، من سكان حي الشجاعية شرق غزة.

كان الجماصي شابًا نشيطًا، محبوبًا بين أقرانه، الابن الوحيد وسط سبع شقيقات، و"الكتف الأيمن" لعائلته.. وقبل الحرب، كان قد بدأ بالدراسة في الجامعة، تخصص إرشاد نفسي، حلمًا منه بأن يعين غيره على تجاوز ما يعانيه من أوجاع وأزمات، لكنه لم يكن يعلم أن الحياة ستنقلب فجأة، ويجد نفسه من ضمن الفئات التي هي الأشد احتياجًا للدعم والرعاية.

يسرد الجماصي لصحيفة "فلسطين"ما عايشه منذ بداية الحرب: "مع بدء الحرب الإسرائيلية اشتدت الغارات على حي الشجاعية، فأحبرت على النزوح إلى حي التفاح، حيث أقاربي علي أجد بعض الأمان هناك"، مشيرًا إلى أنه وعائلته حاولوا التكيف مع الواقع، فبنوا موقدًا صغيرًا في الأرض المجاورة للمنزل لطهي الطعام، وسط انقطاع الكهرباء وشحّ الوقود.

وفي تاريخ 19/12/2023، وبينما كان يحاول إشعال النار، هزّ انفجار هائل الحي، صاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية استهدف المنزل المجاور، فتطايرت الشظايا، لتصيبه في رأسه إصابة بالغة فأصيب بكسر في الجمجمة، وكسر في الأنف، وشظايا اخترقت عينيه، أفقدته البصر بشكل دائم.

سقط على الأرض مضرجًا بدمائه، وسط فوضى، وغبار، وصرخات. كانت غزة يومها تغرق في الدم، وكانت المستشفيات تعج بالمصابين، والكوادر الطبية مرهقة، تُجري عمليات الفرز بين الجرحى، من سيُنقذ ومن "لم تعد له فرصة".

ويتابع الجماصي حديثه: حين نُقلت إلى المستشفى، نظر إلي أحد الأطباء وقال لوالدي، إن حالتي ميؤوس منها، مردفا: "لكن معجزة صغيرة حدثت، ممرض شاب، اقترب مني، وقرر أن يعطيني حقنة دوائية أوقفت النزيف، فتغير كل شيء".

بدأت المؤشرات الحيوية تتحسن، وتحرك الفريق الطبي، ليجري له لاحقًا عملية جراحية، أُزيل فيها بقايا مقلتي عينيه.

وتزامنت الجريمة الإسرائيلية مع الاستهداف الممنهج للمنظومة الصحية في غزة، بكوادرها ومقدراتها، وتكدس الشهداء والجرحى الذين يصلون تباعا إلى المستشفيات المنهارة.

حين استعاد الجماصي وعيه، لم يكن مدركًا بعد أنه فقد بصره، طلب كشافًا ضوئيًا ليدخل الحمام، فصدمه من حوله بالحقيقة: "أنت فقدت نظرك يا أسامة". لم يقل شيئًا، فقط دمعت عيناه الخاليتان من الضوء، وبقي صامتًا لساعات.

منذ تلك اللحظة، تغير كل شيء لم يعد ذاك الشاب الذي يعرفه الجميع، لم تعد خطواته تُرى، ولا نظراته تُقرأ، أصبح رهين الظلام، والمجهول، مشيرا إلى أن البعض لا يرحم في نظراته ولا في كلماته.

عودة إلى العتمة

بعد وقف إطلاق النار المؤقت، عاد الجماصي إلى منزل عائلته في الشجاعية. المنزل آيل للسقوط، لكن البقاء فيه كان أفضل من الخروج إلى نظرات البعض، إلى الشفقة الزائدة، أو التجاهل القاسي. لم يكن يريد أن يُنظر إليه كـ"كفيف"، بل كشخص ما زال فيه حياة.

لكن الحرب لا تنتهي بسهولة، عادت القذائف، واستأنف الاحتلال القصف، فأجبر على النزوح مجددًا، هذه المرة وهو لا يرى، يسير تحت صوت الطائرات ممسكًا بيد ابن عمه. وبينما كانا يحاولان النجاة، قال لابن عمه: "اتركني، انقذ نفسك"، لكنه رفض، وظل متمسكًا به حتى وصلا إلى بر الأمان.

اليوم يعيش الجماصي في خيمة بلا نوافذ، بلا خصوصية، بلا راحة. يتحدث عن الرطوبة التي تخرق عظامه، عن حرارة الصيف التي تكتم أنفاسه، عن المساحة الضيقة التي لا تسمح له حتى بالسير داخلها. يقول: "الخيمة مش مكان لإنسان... خاصة واحد زيي، فقد نور عيونه، وبحاول يتقبل الحياة من جديد".

ويختم حديثه: "ورغم أن الحرب أطفات نور عيني، إلا أنها لم تطفئ إرادتي، فأصبحت أتلمّس الحياة بأصابعي، امشي بثقة الآخرين"، ويحلم أن تكون عتمته المؤقتة طريقًا نحو ضوء جديد... من نوع آخر.

المصدر / فلسطين أون لاين