أخبار اليوم - على كرسيّ بالٍ، وتحت خيمة لا تقي برد الليل ولا حرّ النهار، يجلس محمود عفانة (38 عامًا)، عاجزًا عن الوقوف مجددًا إلا بعكازين يتنقّل بواسطتهما. يحدّق طويلًا في ساقه المبتورة، ويتمتم: "إنها الحرب."
ففي قطاع غزة، حيث تتعدّد مآسي حرب الإبادة الإسرائيلية، كان عفانة واحدًا من بين مليوني نسمة وأكثر، ممّن عاشوا تفاصيلها المؤلمة، وشاهدوا عمليات القتل والتدمير، وعانوا الجوع والحرمان بفعل الحصار والتضييق.
قبل الحرب الدموية التي شنّها جيش الاحتلال في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عمل هذا الشاب "شيفًا" لسنوات طويلة. كانت حياته تضجّ بالحيوية والمذاقات الشهية التي كان يُبدع في إعدادها داخل مطبخ أحد أشهر مطاعم محافظة شمالي قطاع غزة.
كان يبدأ يومه فجرًا، يُعدّ مكوّنات الأطباق بعناية، ويعود إلى منزله في منطقة تلّ الزعتر مساءً، محمّلًا برائحة البيتزا والمأكولات الشرقية المتنوّعة، ووجهه مزيّن بابتسامة الرضا.
لكن كل شيء تغيّر في لحظة واحدة، حين قرّر عفانة الذهاب في التاسع من مارس/ آذار 2024 إلى منطقة مفترق الكويتي جنوب مدينة غزة، حيث تجمّع المواطنون بحثًا عن الخبز والماء وبعض المساعدات بعدما وصلت المجاعة آنذاك لذروتها.
لم يكن يعلم أن القدر يخبّئ له مأساة ستمتدّ فصولها إلى ما لا نهاية. فجأة، وعلى حين غرّة، أطلقت مدفعية جيش الاحتلال قذيفتين، سقطت إحداهما بالقرب منه.
"كنت أقف مع مجموعة من الناس ننتظر شاحنات المساعدات، وفجأة دوّى انفجار هائل، وحرارة شديدة، ثم ظلام." هكذا يروي عفانة بصوت خافت.
لم يمضِ وقت طويل حتى نُقل عفانة إلى المستشفى فاقدًا الوعي، وعندما استعاد إدراكه، كان قد فقد ساقه اليسرى من أعلى الفخذ. وانتهت بذلك قدرته على الوقوف والمشي، والأسوأ من ذلك، لم يعُد بإمكانه العودة إلى مهنته التي تتطلّب حركةً ونشاطًا دائمين.
بعد إصابته في القصف الإسرائيلي، أصبح هذا الشاب مقعدًا، لا يفارقه عكازاه المعدنيان.
لكن مأساة عفانة لم تنتهِ عند بتر ساقه، فقد دمّرت طائرات الاحتلال منزل العائلة المكوّن من خمسة طوابق في تل الزعتر، وسوّته بالأرض تمامًا، ليجد نفسه بلا مأوى ولا مصدر رزق. تنقّل بين مراكز الإيواء قبل أن يستقرّ تحت خيمة بالكاد تتّسع له ولزوجته فداء (34 عامًا)، وبناته: أسيل (16 عامًا)، ريماس (14 عامًا)، وبسنت (9 أعوام).
"الحرب قلبت حياتي رأسًا على عقب. لم أتوقّع للحظة أن أصل إلى هذه المعاناة"، يضيف عفانة، "زوجتي وبناتي يَنَمْنَ جائعات. كلّ يوم أحاول تصبيرهن، لكن لم يعُد بإمكاننا التحمّل أكثر من ذلك."
"يسألنني دائمًا عن الطعام، والوجبات، وأشهى المأكولات التي كنت أُحضِرها إليهن. لقد أصبح كل شيء الآن محرّمًا علينا بسبب الحرب والحصار الإسرائيلي." قال عفانة، ممسكًا بيد طفلته الصغرى التي تلتصق به وكأنّها تحتمي من عالم لم يعُد يعرف الرحمة.
وتابع: "تطلب بسنت منّي البيتزا، فهي وجبتها المفضّلة التي لم أعُد قادرًا على توفيرها. نكتفي بتناول العدس والفاصوليا، وقد نفد لدينا مخزون الطحين. كانت طفلتي تغادر مقاعد الدراسة وتأتي إلى المطعم لتأكل البيتزا، لكن الحرب انتزعت هذه الأجواء."
وصارت عائلة الجريح عفانة تعتمد أساسًا على مساعدات شحيحة تصل أحيانًا من بعض الجمعيات، لكنها لا تكفي لسدّ رمق أفرادها، وقد تضاءلت مؤخرًا بسبب إغلاق الاحتلال معابر غزة.
وبقدر المأساة التي جعلته حبيس عكازين معدنيين، ما زال عفانة يتطلّع إلى إنهاء حرب الإبادة، ومنحه فرصة أخرى للحياة وإسعاد زوجته وبناته.
"أريد كرسيًّا كهربائيًّا، أو طرفًا صناعيًّا يُمكّنني من التنقّل والعمل من جديد. لا أريد أن أكون عبئًا على أحد. أريد فقط أن أَطهو مجددًا، أن أعيش بكرامة، أن أضحك كما كنت أفعل قبل الحرب." قال، وعيناه تسبحان في الأفق، كأنّما تبحثان عن بصيص أمل في غابة من الرماد لصحيفة "فلسطين".
تبقى قصة هذا الشاب واحدة من آلاف القصص الشاهدة على عمق المأساة الإنسانية في غزة، وكيف جعلت الحرب حياتهم جحيمًا لا يُطاق.
المصدر / فلسطين أون لاين